استضافت مدينة السلام (شرم الشيخ) اللقاء التاسع للتحالف الدولى للشمول المالي، وذلك خلال الفترة الماضية، وهى مسألة مهمة وضرورية وتأتى فى التوقيت المناسب تماما، فى ظل التطورات الجارية على الساحة الاقتصادية ورغم ذلك فإننا نلحظ أن هناك مبالغة كبيرة فى توقع النتائج المترتبة على عقد هذا اللقاء خاصة ما جاء على ألسنة المسئولين الرسميين والذين حاولوا إيهام الجميع بأن الشمول المالى هو عصا موسى التى ستحل كل مشاكلات الاقتصاد المصرى من تضخم وبطالة وفقر وتخلف إلخ. وينبغى ألا يفهم من ذلك أننا ضد هذه المسألة ولكننا ضد التهويل أو التهوين وبعبارة أخرى يجب أن ندرس المسألة فى سياقها العام ولانخرجها من ذلك خاصة فى ضوء ما يحدث فى البلدان الأخرى وقد بدأ العالم أجمع الاهتمام بهذه الظاهرة ففى عام 2011، أطلق البنك الدولي، «المؤشر العالمى لتعميم الخدمات المالية» فى أكثر من 140. وأشار الى أنه خلال الفترة بين عامى 2011 و2014، أصبح هناك 700 مليون شخص لديهم حسابات فى البنوك أو المؤسسات المالية الأخرى أو مؤسسات تقديم الخدمات المالية عبر الهاتف المحمول، وتراجع عدد الأفراد الذين «لا يمتلكون حسابات مصرفية» بنسبة 20 % ليصل إلى مليارى بالغ، كما زادت النسبة المئوية للبالغين الذين يمتلكون حسابات مصرفية من 51 % إلى 62 %، ويرجع هذا الاتجاه إلى ارتفاع عدد أصحاب الحسابات بواقع 13 نقطة مئوية فى البلدان النامية. كما تشير الإحصاءات الى قيام الهند فى الآونة الأخيرة بإلغاء 86% من اوراقها النقدية كما تعتزم كوريا الجنوبية وقف سك العملة المعدنية بحلول عام 2020 كما قفز عدد مستخدمى وسائل الدفع الاليكترونى بدلا من النقدى إلى نحو 65% من مستخدمى الانترنت البالغين فى الصين وفى هولندا زاد عدد المعاملات بالطاقات الائتمانية عن النقد المصدر منذ عام 2015 بينما على الجانب الآخر مازال النقد يلعب دورا مهما وأساسيا فى بلدان عديدة مثل ألمانيا والنمسا واليابان وسويسرا، وعلى الصعيد العالمى ككل مازالت نحو 85% من جميع المدفوعات يتم نقدا وهناك أسباب عديدة تدفع هؤلاء لتفضيل التعامل النقودى يأتى على رأسها أنها أداة دفع مرنة وسهلة ولا تحتاج إلى بنية أساسية كالكهرباء أو الاتصالات اللاسلكية أو الإشارات الخلوية كما أنها تتميز بالبساطة فما على المواطن إلا دفع النقود والحصول على الخدمة أو السلعة دون السؤال عن الاسم والعنوان أو رقم الهاتف وغيرها من الأسئلة التى يراها هؤلاء أنها تدخل فى شئونهم الخاصة. وفيما يتعلق بمصر فمن الجدير بالذكر أن العادات السائدة لدى معظم الأفراد فى المجتمع مازالت بعيدة تماما عن مفهوم التعامل المصرفى فى كل الأمور وللأسف فإن هذه الظاهرة لا تقتصر على الشرائح الدنيا، كما يتصور البعض، ولكنها تمتد لتشمل كل شرائح المجتمع والأهم من ذلك أنها تشمل أيضا العديد من المؤسسات العاملة فى الاقتصاد تشير المؤشرات الإحصائية إلى العديد من الظواهر المهمة والتى تؤكد تفضيل التعاملات النقودية من أهمها ارتفاع نسبة النقد المتداول خارج الجهاز المصرفى فى هيكل السيولة المحلية، حيث ارتفع من 14.2% عام 2009 إلى 17.9% عام 2014 وذلك قبل أن يهبط الى 16.5% وإلى 14،5% خلال أعوام 2015/2016 و2016/2017 على الترتيب مع الأخذ فى الحسبان اثر التغير فى سعر الصرف فى نوفمبر 2016. والذى أدى إلى زيادة كبيرة فى الودائع بالعملات الأجنبية كما يشير البنك الدولى إلى انخفاض عدد الشركات التى تتعامل مع البنوك، وهنا يشير تقرير البنك الدولى إلى أن أقل من 60% من الشركات تملك حسابا جاريا أو توفيرا بالبنوك وأن 6% فقط منها لديها قرض مصرفى أو خط اعتماد. ولهذا تمثل البنوك 2% فقط من تمويل هذه الشركات وهو ما يقل كثيرا عن المتوسط فى منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا حيث يصل إلى 12%. وبعبارة اخرى فإن 40% من شركات القطاع الخاص المنظم لا تملك حسابات فى البنوك ولا تتعامل مع الجهاز المصرفى على الاطلاق، فإذا ما أضفنا إلى ذلك القطاع غير المنظم لاتضح لنا الحجم الكبير ممن لا يتعاملون مع الجهاز المصرفي وقد أدت هذه المسالة الى العديد من الظواهر السلبية منها عدم القدرة على التشخيص الدقيق والسليم للظواهر الاقتصادية ومعرفة الآليات التى تحكم سلوك وتحركات الاقتصاد، وبالتالى إظهار النشاط الاقتصادى على غير حقيقته وصعوبة وضع الحسابات القومية للبلاد. كما تؤدى هذه العملية إلى فقدان السلطات النقدية قدرتها على استخدام الأدوات النقدية لتحقيق الأهداف المنوطة من الخطط التنموية فضلا عن انتشار الفساد واتساع نطاق التهرب الضريبى وغيرهم ولا شك أن الاستمرار فى تفضيل التعامل النقودى عن التعامل المصرفي. يرجع إلى ضعف دخول الأفراد باعتباره عاملا مهما فى تحديد نمط الاستهلاك فضلا عن تخلف العادات المصرفية لدى قطاع كبير من الافراد وعزوفهم عن التعامل مع البنوك مفضلين المقايضة وهو ما يحرم هذه البنوك من جانب لا بأس به من المدخرات نتيجة لتسربها إلى خارج الجهاز المصرفى وهى النقطة التى تحسن شركات تنظيف الأموال استغلالها تماما، كذلك انتشار بعض القيم السلبية تجاه التعامل المصرفي، فضلا عن سيادة انطباع لدى البعض بأن هذه التعاملات هى تعاملات ربوية وبالتالى مخالفة للشريعة الاسلامية، الامر الذى أدى إلى إحجام نسبة لا بأس بها من الأفراد عن التعامل المصرفي، وكذلك عدم نجاح الجهاز المصرفى حتى الآن، فى تقديم الخدمات المصرفية المطلوبة فى الريف والقري، ولا الوجود بالقرب منهم وفى أماكن يسهل الوصول إليها، وهى القضية التى يجب ان ننشغل بها جميعا لوضع آليات ووسائل لتشجيع البنوك المصرية على فتح المزيد من الفروع فى الريف والقرى المصرية، مع مراعاة الذوق العام عند البناء فى هذه المناطق. فعلى الرغم من توسع البنوك فى إنشاء العديد من الفروع والتى وصلت فى نهاية يونيو 2016 إلى2863 فرعا (منها 1176 فرعا لبنوك القطاع العام و1687 فرعا لبنوك القطاع الخاص) الا انها مازالت لا تتناسب مع عدد السكان من جهة وأيضا تعانى مشكلة التركز، أما فى القاهرة الكبرى أو بعض المحافظات الحضرية وفى مدن هذه المحافظات وبالتالى مازالت البنوك غير قادرة على خدمة المواطنين العاديين والفلاح البسيط، ولم تقم إلا بمبادرات محدودة للغاية لاجتذاب هذه الأموال، وهى المسالة التى ينبغى أن تولى عناية القائمين على الاقتصاد المصرى للعمل على تغيير هذه العادات عن طريق دراسة أسبابها والقضاء على المعوقات التى تحول دون تطوير العادات المصرفية بالمجتمع. لمزيد من مقالات عبد الفتاح الجبالى