تتسارع التحولات العسكرية على الأرض فى سوريا بوتيرة غير مسبوقة، فالنظام السورى بدأ معركته لاستعادة أهم محافظاته الشرقية، دير الزور من أيدى تنظيم «داعش». وكان قبل ذلك حقق تقدماً مهماً فى البادية السورية وطرد التنظيم كلياً من ريف حماة، وقبل ذلك طرده من حلب. وإلى جانب التحولات الميدانية، هناك تحولات سياسية لا تقل دلالة. فالضغط الدولى لتوحيد فصائل المعارضة السورية فى وفد واحد، يزداد قوة. لكن بالمقابل يزداد ضعف هذه الفصائل يوماً بعد يوم. وحتى الراعى الأمريكى الذى لطالما ساعد على تسليحها وتدريبها وتمويلها طوال السنوات الست الماضية، بات يقف اليوم فى الخندق نفسه مع روسيا فيما يتعلق بالقضاء على تنظيمات المعارضة المتطرفة. ويقول جوشوا لانديز، أحد أبرز خبراء الشأن السورى ورئيس قسم دراسات الشرق الأوسط فى جامعة أوكلاهوما الأمريكية، إن سوريا تدخل مرحلة جديدة وفارقة من الصراع. وأوضح فى حوار مع «الأهرام» أن هذه المرحلة تتميز بتغيير دول الخليج موقفها من الرئيس السورى بشار الأسد، إذ لم تعد تشترط رحيله للوصول لتسوية للأزمة السورية، وأقصى ما تأمل فيه حالياً هو ضغط روسى -أمريكى للحد من النفوذ الإيرانى فى سوريا. وقال لانديز إن أمريكا ستغض الطرف عن العمليات العسكرية السورية -الروسية -الإيرانية لإنهاء وجود آخر التنظيمات المتطرفة فى محافظة إدلب، شمال البلاد بعد انتهاء معارك دير الزور. ومع أن لانديز يتوقع معارك ضارية فى دير الزور، إلا أنه يعتقد أن «داعش» سيطرد قريبا جداً منها مع دخول قوات الجيش السورى المدينة من ريفها الغربي، مدعوما بالطيران الروسي، ودخول «قوات سوريا الديمقراطية» المدينة من الناحية الشرقية، مدعومة بالطيران الأمريكي. وفيما يلى نص الحوار: تسير معركة دير الزور على نحو جيد للجيش السوري، فهم يتقدمون لكسر حصار «داعش» على مناطق سيطرة الحكومة. كما أن «قوات سوريا الديمقراطية»، تحت غطاء جوى أمريكي، قررت دخول معركة دير الزور لطرد «داعش» من أخر معاقله الكبيرة فى سوريا؟ هذا صحيح. فالنظام السورى يستفيد من تركيز أمريكا على قتال «داعش» وهزيمته فى كل سوريا. ومع إضعاف «داعش» المتزايد، فإن الحكومة السورية هى أكثر المستفيدين لأنها استعادت السيطرة على أغلب الأراضى التى كانت تحت سيطرة التنظيم. وإذا نجحت القوات السورية فى استعادة دير الزور، وهذا ما أتوقعه، وباقى وادى نهر الفرات وصولاً إلى البوكمال فسيعود تحت سيطرتها معظم حقول النفط فى وسط سوريا ومنابع المياة. كما أن دير الزور هى قلب الشرق السوري، وعقدة الوصل بين الكثير من المناطق والممر إلى العراق. وهى مركز العشائر وشركات النفط والسياحة. فدير الزور مهمة جداً للحكومة السورية، مثلما كانت مدينة الموصل مهمة جداً للحكومة العراقية. وبعد دير الزور، ستتجه الأعين نحو إدلب. وسيغض الأمريكيون والأتراك أبصارهم عن العمليات العسكرية المتوقعة لروسيا والجيش السورى وإيران فى إدلب للقضاء على كل الفصائل هناك ومن بينها «جبهة النصرة» وغيرها. لقد انقلبت أمريكا وحلفاؤها على المعارضة، وهم اليوم يقفون فى نفس الخندق مع الروس والإيرانيين والنظام السورى للقضاء على «داعش» والتنظيمات المتطرفة الأخرى. لكن السؤال الأن هو حول الأكراد. فالأكراد الذين يشكلون العمود الفقرى ل «قوات سوريا الديمقراطية» خاضوا معارك مهمة إلى جانب الأمريكيين، وطردوا «داعش» من مناطق شمال سوريا، وهم يحاربون «داعش» حالياً فى الرقة. ويتجهون لقتال ضار ضد التنظيم فى دير الزور. وحصدهم نتائج سياسية لتلك الانتصارات العسكرية يعتمد على مدى التزام أمريكا بالبقاء فى شمال سوريا وإلى متى وما هى الخطط الأمريكية بعيدة المدى فى سوريا. هناك قلق مفهوم لدى أكراد سوريا من تنسيق إقليمى ضدهم. فرئيس هيئة الأركان الإيرانية الجنرال محمد باقرى زار تركيا الشهر الماضي، والتقى الرئيس التركى رجب طيب أردوغان حيث عرض عليه مساعدة أنقرة فى حربها ضد حزب العمال الكردستاني. فما هو المقابل الذى تريده طهران؟ إيران لا تريد قوات أمريكية فى شمال سوريا، ولا تريد مجالاً حيوياً ومناطق نفوذ أمريكية فى مناطق سيطرة الأكراد. وتركيا لديها نفس الموقف. فالحلف الأمريكى -الكردى يعطى لواشنطن مجال نفوذ فى مناطق أكراد سوريا خاصة مع إقامة قواعد عسكرية أمريكية فى مناطق الأكراد، فهذا يقلل الحاجة الأمريكية لقاعدة انجيرليك العسكرية التركية. وبينما من مصلحة أمريكا تعزيز حلفها مع الأكراد لإيجاد منطقة نفوذ لها فى سوريا، فمن مصلحة تركياوإيران الحد من قوة الحلف الأمريكى -الكردي. هناك إذن مصالح مشتركة بين إيرانوتركيا فى هذا الملف، وهذا يفيد الرئيس السورى بشار الأسد الذى لا يريد للأكراد الانفصال فى مناطقهم، بل القبول بسيادة الحكومة المركزية. لكن وبرغم مخاطر رمى كل أوراقهم فى السلة الأمريكية، يشعر الأكراد أنه بدون تحالفهم مع واشنطن فإن الخيارات أمامهم قليلة جداً. فباقى فصائل المعارضة المدعومة من الخليج مثلاً ترفض دعوة المكون الكردى لأى مفاوضات سياسية لبحث مستقبل التسوية فى سوريا؟ المعارضة السورية ممزقة تماماً. ورغم كل محاولات توحيدها، تظل الحقيقة الناصعة أن هذه الجهود لم تؤت ثمارها. ولم يعد هناك أى مكان أو نفوذ للفصائل الأكثر اعتدالا فى المعارضة، ربما باستثناء تلك الفصائل الصغيرة التى تسلحها وتدعمها تركيا. لكن هذه الفصائل تم احتواؤها بشكل كامل فى إطار المشروع التركى ومن الصعب اعتبارها فصائل سورية نافذة اليوم. ولأن التقارب الأخير بين إيرانوتركيا لا يروق لهذه الفصائل القريبة من تركيا، فليس أمامها اليوم سوى التقرب مجدداً من الخليج فى محاولة لإنقاذ مشروعهم عبر دعمهم مالياً وسياسياً. ولا شك أنهم سيحصلون على بعض المساعدات المالية. لكن سياسياً ليس بوسع أى قوى فعل أى شيىء من أجلهم. إذن لن تشارك فصائل المعارضة العربية -السنية المدعومة أمريكياً والمنضوية فى إطار «الجيش السورى الحر» مثل «قوات أحمد العبدو» أو «جيش مغاوير الثورة» فى تحرير دير الزور؟ لا. لا أعتقد أن هذا سيحدث. ففصائل «الجيش الحر» عندما حاولت فى الماضى التوجه نحو البوكمال، شرق سوريا، تمهيداً لمعركة دير الزور، خسروا أمام «داعش». والقبائل العربية فى شرق سوريا التى وعدت أنها سوف تأتى لمساعدتهم لم تأت. بل على العكس انقلبت ضدهم. كان فشلاً ذريعاً. اعتقد أن أمريكا تخلت عن مشروع دعم وتسليح المقاتلين العرب السنة فى سوريا. وتركز كل جهودها حالياً على مشروع دعم وتسليح المقاتلين الأكراد فى «قوات سوريا الديمقراطية». بالتأكيد هناك محاولات لإدماج بعض عناصر القبائل العربية فى هذه القوات، لكن دورهم يظل محدوداً. أين تضع فصائل المعارضة من تلك التحولات؟ المعارضة لم تعد عاملاً حاسماً لتقرير ما سيحدث فى سوريا وهى فى حالة ضياع. فاستعادة الجيش السورى محافظة حلب، شمال البلاد، غيَر اتجاهات الأحداث فى سورية. وأمريكا اليوم لم تعد مهتمة بدعمها. فمشكلة المعارضة أنها ليست على الأرض فى سوريا، وتعيش فى الخارج وبالتالى تأثيرها على الأرض محدود. المعارضة السورية اليوم مثل الفصائل الفلسطينية فى الثمانينيات عندما توجهت إلى تونس بعد الحرب اللبنانية. هذه هى المرحلة التى تمر بها المعارضة السورية اليوم. لقد خسروا. وليس هناك حل عسكرى للحرب فى سوريا، لانه لم يعد لديهم جبهة قتال. ما هى الخيارات أمامهم إذن؟ من الواضح أن بعض الفصائل لن يتخلى عن القتال ضد النظام. بعضهم سيحاول أن يحقق انتصارات فى معارك أصغر. سيحاول ضمان عدم اعتراف الغرب ببقاء وشريعة نظام بشار الأسد. سيحاول ضمان أن الشركات الغربية ستواصل مقاطعة سوريا وتمنع الأستثمار فى إعادة بناء من دمرته الحرب. ستحاول المعارضة إبقاء الدولة السورية ضعيفة على قدر ما يستطيعون بأمل أن يساعدهم هذا على إطاحة الأسد مستقبلاً. هل ترى تغييراً فى موقف الخليج من بقاء الرئيس السورى بشار الأسد؟ هل باتوا أكثر واقعية فى التعامل مع ملف رحيله؟ نعم. فيجب أن يقبلوا بالوضع. فليس لديهم خيارات كثيرة. فأسعار النفط ما زالت منخفضة، وستظل منخفضة خلال العامين المقبلين. وأمريكا تعزز اعتمادها على النفط الأحفوري. وحرب اليمن كارثة. وهناك مواجهة مفتوحة مع قطر. وتركيا ابتعدت عن الخليج، وتوجهت نحو روسياوإيران لأنها تدرك أن الحرب ضد الرئيس السورى لا يمكن الانتصار فيها، وتريد الآن التركيز على التصدى لأكراد سوريا وعدم السماح بتمدد نفوذهم. ومن أجل التصدى للأكراد، يجب أن تنأئ أنقرة بنفسها عن فصائل المعارضة، وتركز جهودها مع الحكومة السورية وروسياوإيران لوقف تمدد النفوذ الكردي، فهذه مصلحة مشتركة بين الأطراف الثلاثة. وفى ضوء كل هذا تقلصت الخيارات أمام السعودية والخليج عموماً حيال ما يمكن أن يفعلوه فى سوريا. تريد الحكومة السورية والروس والإيرانيون وقف الحرب فى سوريا وبدء تسوية سياسية لا تزعزع مركزية الدولة السورية. فهل لدى أمريكا أى خطط واضحة حول سوريا؟. المبعوث الأمريكى ضد »داعش« بريت ماكجوريك أعلن قبل أسابيع أن أمريكا ليس لديها خطط بعيدة المدى فى سوريا، وذلك رداً على إعلان الأكراد أن أمريكا لن تغادر سوريا بعد القضاء على »داعش« وستظل موجودة فى المناطق الشمالية خلال السنوات المقبلة. طبعاً لا أحد يعلم تحديداً ما الذى ستفعله أمريكا، فهذا يعتمد على ما يريده الرئيس الأمريكي. ومع أنه ليس من الواضح أن أمريكا تريد استثمار الكثير من الوقت والمال فى شمال سوريا، إلا أنه من ناحية آخرى من الصعب تصور أن واشنطن ستتخلى كلياً عن الأكراد. وأعتقد أن أمريكا سيكون بمقدورها الاحتفاظ ببعض القواعد العسكرية فى شمال سوريا بتكلفة قليلة. وبشار الأسد ما زال ضعيفاً وليس من الصعب إبعاده عن مناطق الأكراد فى شمال سوريا. وروسيا لا تريد مواجهة فى هذا الملف، وستطلب من الأكراد الالتزام بأن يظلوا جزءا من الدولة السورية. لكن بخلاف هذا سيتمتع الأكراد بإدارة مناطقهم فى إطار دولة سورية موحدة وهذا من مصلحة أمريكاوإيرانوتركيا أيضا. فهذا نفس الشىء الذى تفعله أمريكا فى العراق، فهى تدعم استقلال الأكراد على الأرض لكن تطالبهم بأن يتظاهروا بأنهم جزء من الدولة المركزية.