تمر هذا الشهر الذكرى الرابعة والعشرون لوفاة مفكرنا الكبير زكى نجيب محمود. وهو مفكر له تأثير هائل على حياتنا الفكرية العربية المعاصرة. ولكى نفهم أبعاد هذا التأثير علينا أن نرجع إلى سؤال أساسى. حينما طالب أحمد لطفى السيد عام 1908 بضرورة تدريس الفلسفة فى الجامعة الأهلية، تساءل الناس وقتها: ما جدوى الفلسفة؟ وما هى ضرورتها لحياتنا العملية؟ وانقسم الناس وقتها إلى معسكرين، كليهما رافض للفلسفة. الأول يخشى على العقيدة من الفلسفة، ويضم رجال الدين والاستعمار الإنجليزى! والثانى أنصار التقدم واللحاق بالحضارة الحديثة الذين كانوا يعتبرون الفلسفة من العلوم الكلامية التى تغمر حياتنا الشرقية، فى حين أن المطلوب هو الاهتمام بالعلوم الدقيقة والتكنولوجية. حياة مفكرنا الكبير زكى نجيب محمود الزاخرة بالإنتاج الفكرى هى الإجابة الحية المتجسدة على هذا السؤال الأساسى ما جدوى الفلسفة لحياتنا؟ من المعروف أن مفكرنا قد تبنى مذهب الوضعية المنطقية الفلسفى الذى كان شائعاً فى إنجلترا. ودعا لهذا المذهب فى بلادنا العربية. وقد تبنى آخرون غيره مذاهب غربية أخرى مثل الماركسية والوجودية والبراجماتية. وكثيراً ما جرى تصنيف هذه الظاهرة، من قبل أنصار الهوية، على أنها تبعية للغرب. وهو تصنيف خاطئ تماماً لأن هذه الظاهرة طبيعية وعلامة على حيوية الفكر، ولهذا نجدها موجودة فى كل الثقافات العالمية الكبرى، فى روسيا واليابان والصين والهند وأمريكا اللاتينية، دون أن تنظر هذه الثقافات إلى تبنى المذاهب الفلسفية الغربية نظرة سلبية كما هو الحال عند العرب. كما أن أى مذهب فلسفى هو مرآة لعصره، والمذاهب الفلسفية المعاصرة هى تعبير عن مشكلات العالم المعاصر. لم يكتف زكى نجيب محمود بعرض المذهب الذى ينحاز له والتعريف به، وإنما استخدمه لتشريح الواقع الذى يعيش فيه والوقوف على أمراضه الفكرية المزمنة، والسعى إلى تجاوزها. وكان كتابه «خرافة الميتافيزيقا» خير مثال على ذلك. لقد كان دافعه الأساسى فى الدعوة إلى الوضعية المنطقية هو إصلاح واقعه ومساعدة بلاده فى الخروج من التخلف، وهذا أيضاً كان دور المذاهب الفلسفية المعاصرة فى الثقافات غير الغربية التى أشرنا لها. كان الدكتور معتزاً بثقافته العربية، ويعرف أن إسهام الحضارة العربية الإسلامية فى تاريخ الفكر وتاريخ العلم الإنسانى كان مهما وحاسماً. ولكن واقع الحال بعيد كل البعد عن هذا الماضى الزاهر. وكان لديه حدس بأن الجوانب المظلمة فى هذا التراث مازالت حية وفاعلة، وتوجه الناس فى سلوكهم واختياراتهم، فى حين أن الجوانب المضيئة توارت ولم يعد لها تأثير يذكر. من هنا كانت ضرورة العودة إلى زيارة التراث للتنقيب والفرز. وهو ماقام به مفكرنا مزوداً بمعيارين أساسيين فى تقدير قيمة الأفكار وهما: العقل والتجريب. ويكفى أن نذكر كتباً مثل «تجديد الفكر العربى» و«ثقافتنا فى مواجهة العصر»، التى حاول من خلالها أن يبين لنا أننا لسنا غرباء عن العقلانية ولا عن الروح العلمية، وأننا نمتلك فى ثقافتنا مقومات التقدم. المهم أن نعرف ما الذى ينبغى أن نبحث عنه فى تراثنا. وكما قال المفكر الفرنسى جوريس: حينما نرجع إلى الماضى، علينا أن نترك الرماد ونبحث عن الجذوة المشتعلة. الفلسفة عند كاتبنا ليست مصطلحات لاتينية يلوكها المثقفون، ولكنها رؤية توجه سلوك البشر. والتنوير عند الفيلسوف كانط هو وصول الإنسان إلى سن الرشد، ومعنى ذلك أن يتعود الإنسان على أن يفكر بنفسه ويوازن ويحسب ثم يختار بحرية، ويتحمل مسئولية اختياره، ولكن أن يبحث الإنسان عن سلطة توجهه وتختار له سواء كانت سلطة دينية أو سياسية أو أبوية، فهذا معناه أنه لم يصل بعد إلى سن الرشد. كانت هذه هى الروح الكامنة خلف مقالات الدكتور زكى الصحفية والتى وجهها لكل إنسان لكى يتمكن من تدبير أمور حياته بعقلانية. فى سنة الدراسات العليا زف لنا قسم الفلسفة خبر موافقة الدكتور على العودة للتدريس بعد طول انقطاع، وفى أول محاضرة كان يمكن له أن يشير إلى أى كتاب من كتبه السابقة ليقرره علينا، لكنه اقترح علينا أن ندرس فلسفة اللغة، وكان موضوعا جديدا وقال لنا إن هذا الموضوع يقتضى منه ومنا بحثاً دؤوباً لعدم توافر مراجع له باللغة العربية. وكان وهو فى الخامسة والسبعين يحضر أولا بأول دروسه عن أفلاطون وابن جنى ودوسوسير وبنفينست وتشومسكي. ويأتى إلى المحاضرة كاتباً على ظهر مسودات كتبه القديمة بأقلام الفلوماستر العريضة ذات الألوان الزاهية وبحجم كبير كلمتين أو ثلاثا فى السطر الواحد، ويقرب هذه الورقة حتى تكاد تمس نظارته السميكة يستطيع أن يقرأ. كتب لطفى السيد فى «رسالة الجامعة» أن المعرفة فى الجامعة هى بحث مشترك بين الأستاذ والطالب، وكان سلوك زكى نجيب محمود كأستاذ جامعى تجسيداً لهذا المبدأ. وكان دوره وإنتاجه الفكرى أمارة حية عن جدوى الفلسفة فى حياتنا المعاصرة. لمزيد من مقالات د.انور مغيث;