حطّ بصرى عليها فرأيتها كتلة سوداء من الصمت وسط معزوفة العويل، يجمعها بباقى الكتل المُلتصقة سواد المآزر وزرقة الوجوه. رقد الجسد فى مثواه الأخيرورشّ التربى الماء ونثرالأهل الأزهار، وانتشرأطفال «الرحمة». تحلّق المقرئون حول المدفن، تتمايل الرءوس والأجساد، يتوحّد إيقاع الحركة. أطلقتُ عينيّ للبحث عنها. رأيتها جالسة بين النسوة ال«مولولات» ولاتبكي. قامت تغرزأصابع كفيها فى الأرض. فكّتْ اشتباك الساقيْن فانغرزتْ الركبتان فى توازٍمع أصابع كفيها. علا الظهرالمُقوّس تدريجيًا. نزعتْ ابنتها «ثديها» من فم رضيعها وجرتْ إليها. تناولتْ يدها وساعدتها على القيام. صلبتْ الأم عودها الهش. همستْ ابنتها فى أذنها. دفعتها الأم بطول ذراعها. حاولتْ ابنتها منعها من الحركة. و«كزتها»الأم بكوعها واندفعتْ نحونا. خطاها «كبكبة». ينغرزمشطا قدميها فى التراب فيتناثرمُزوبعًا. أحسستُ كأنّ كرات نارتتّجه نحونا. هل تُحرّم علينا وداعه، كما كانت تُحذره من صداقتنا؟ وقفتْ أمامنا بهامتها الهشة، تلك الهامة التى أحببناها وخشيناها. تخيلتُ أنها تتساند على تيارات الهواء المُعربدة فى خلاء الحوش. مشتْ بعينيها على وجوهنا وقالتْ ((عاوزاكم الليلة فى بيتي)). صوتها فى أذنى يحمل طابعه وتفرده: تلك الحدة القاطعة التى تُخفى فى طياتها شيئًا أخفقتُ دومًا فى تحديد اسمه. تتبعتها عيناي، رأيتها تُوزّع نقودها على المُقرئين وأطفال «الرحمة». التقتْ عيناى بعيون الأصدقاء. سرنا فى اتجاه باب الحوش. أوقفنا صوتها ((ماشيين ليه ؟)). تراجعنا إلى حيث كنا. انحسرظل النخلة واتسعتْ بقع الشمس. قال عادل ((فاكرين وصيته لنا؟)) حام الصمت حولنا. أخرج عادل «القنبلة الموقوتة» من عقولنا. دارتْ العيون فى حومة الصمت. أكانتْ وصية حقًا؟ كان يُمازح الموت، وكنا نطرب من فكاهته ونستخف بوصيته. ذات مرة أوقف ضحكاتنا. غطى كتفيّ بكفيه وقال ((إنتَ تقدرتنفذها)) قلتُ ((بلاش نخلط الجد بالهزل)) اختفتْ سمات وجهه البشوشة. طالتْ أصابع كفيه عظام الكتفيْن. قال ((إزاى أقدرأقنعكم برغبتي؟)) قلتُ ((طلبك هوّالمستحيل بعينه)) خلّص أصابعه من كتفيْ. جرتْ الدماء فيهما. ابتعد عنى قليلا. بدا صوته ساخرًا ممرورًا ((تحلمون بالحرية والمساواة، وتعتبرون الموسيقى وقراءة الشعرعلى قبرى من المُستحيلات؟)) تدخل «أمك» الحجرة. يتجسّد ماحدث أمامى كأنى أرى حلمًا يتكرر. أراكَ تجلس حزينًا شاردًا. وأرى عيون الأصدقاء مُعلقة على جدارلحظة توقف الكون عندها. نختنق بالصمت. نتنفس بوهن. تتقدّم هى ب«صينية الشاي». نُتابع جسدها النحيل المُقوّس. تضع «الصينية» على مكتبك وتسألنا ساخرة ((مين مات لكم ؟)) أكابد كبت ضحكة مُتفجرة. تستديروتواجهنا ((السياسة ياماخرّبت بيوت)) تخرج أنتَ من حزنك وتُداعبها كعادتك، «فتلكزك» فى صدرك كعادتها وتقول ((إنتم شباب. انتبهولمستقبلكم)) هاهى تحمل أعقاب سجائرنا. نتأهب للتنفس. عند باب الحجرة قالت ((أنا عارفه إنكم موش مجانين ولادراويش)). تأملتُ أصدقائي، فارتطمتْ العيون بجدارالصمت. صديق يرحل وجرح يسد فوهة الحزن. أتداوى ببعض كلماته ((أنا شمعة. بقايا احتراقى ليستْ نفايات. إنها تتجمّع. تنتصبْ من جديد)). عاشق الحياة يُمازح الموت دومًا ((سوف أراكم من قبرى حيث تتسلل موسيقى الطفل المُعجزة «موتسارت» أوصوت خالد الذكرسيد درويش. أووأنتم تتلون على قبرى أبياتًا من شعرناظم حكمت أو..)) نقطع عليه استرساله فقال ((لماذا تضحكون؟ ألايحق للإنسان أنْ يختارطقوس عزائه؟)) أكنتَ تُمازح الموت أم تُمازحنا؟ ولكنك كنتَ تؤكد دائمًا ((إنها وصيتى الوحيدة للأصدقاء)) تذكرتُ بعض أبيات الشعرالمُحبّبة إليه. نظرتُ فى عيون أصدقائي، كانت مُغلقة. أغمضتُ عينيّ وأدركنى يقين أنّ كتل الصمت تتفتّتْ تحت أقدامنا. بيوتنا مُتباعدة وضيقة. جلسنا فى مقهى نتشاورفى أمرالذهاب إليها. حلّ المساء ولم نحسم أمرنا. صوتها يقتحم غرقى فى بحرالسكون ((عاوزاكم الليلة فى بيتي)) قرّرنا الذهاب إليها: نفتقد القدرة على التراجع، ونفتقد القدرة على المواجهة. ونفتقد القدرة على عصيان أوامرها. يستقبلنا الوجل ونحن نقترب من الحارة التى ألفتْ أقدامنا. شغل الرجال نصف الحارة، وعلى بُعد خطوات تلاصقتْ كتل السواد فلمحتها بينهنّ. نصبتْ عودها وأقبلتْ نحونا. أشارتْ إلينا أنْ نتبعها. حرّكتْ «كبكبة» خطاها شيئًا غامضًا فى وجدانى لم تمسكه ذاكرتي. فى الممرالضيق جلستْ بعض النسوة وقد وسدّنَ أفخاذهن لصغارهن. جلابيب الصغارمُشجّرة وزاهية على كتل السواد. اقتربنا من الغرفة التى شهدتْ ضحكاتنا وأحلامنا. فتحتْ الباب فأخذنا نتبادل النظرات. أشارتْ لنا بالدخول وتركتنا ومضتْ. جلستُ على أقرب كرسى وأغمضتُ عينيّ غيرقادرعلى التحديق فى محتويات الغرفة. كنتُ أفكرفى أشياء كثيرة ولا أمسك بشيء. طال انتظارنا فأدرتُ بصرى علّنى أوقف طنين الصمت: المكتب الذى تبادلنا الجلوس أمامه. الرفوف التى صنعناها معًا للكتب، الكتب التى اشتركنا فى شرائها، السريرالذى امتصّ متاعبنا. دخلتْ تحمل «الشاي» فانتصبنا وقوفًا. خفّ سميرإليها وتناول «الصينية» وأسرعتُ بتقديم كرسى لها. سبقنى الأصدقاء والتفوا حولها. مدّتْ ذراعيها لرأفت الذى أراحها على الكرسي. تراجعنا إلى الوراء وانتظرنا. شدّتْ ذراعيها على فخذيها فاستقامتْ القامة وأصبح الجسد قوسًا مُنفرجًا. رفعتْ رأسها إلى مستوى وجوهنا وقالت ((المرحوم ساب لى وصية تخصكم)) ودسّتْ كفها فى طوق جلبابها. التقتْ عيناى بعيون الأصدقاء. خرجتْ الكف من الصدربورقة «كراسة» مطوية. مدّتْ ذراعها نحوبهاء وأمرته بقراءة الوصية. ركّزتُ بصرى على بهاء فرأيتُ الورقة ترتعش بين يديه وهويفرد طياتها، ورأيتُ عينيه تُطاردان الكلمات. تنحنح. قالت بصوتها القاطع ((اقرا)) أخذنا نُتابع صوته الذى بدأ مُتحشرجًا ثم مُتهدّجًا ثم رائقًا: أوصيكِ يا أمي.. إنْ دام صمتى ورحيلي.. أواستقرسكنى على صدرسحابة فضية.. أوتناثرتْ ذراتى فوق سنابل القمح.. أنْ تفتحى غرفتى للشمس وللأصدقاء.. أوصيكِ يا أمى بأصدقائي.. لاحُرموا «شايك».. لاحُرموا حنانك.. لما توقف ساد صمت سميك. أحسستُ كأنى شربتُ خمرتى الأولي، وسرى فى رأسى خدرغيّم الوجوه والوجود، حتى انتبهتُ على صوتها المُميزفى أذنى ((جرى لكم إيه؟)) التقتْ عيناى بعيون الأصدقاء. لم تُمهلنا. صوتها يشدنا إليها ((دى رغبة ابني. كلمنى عنها كتير. وصانى بيها فى جواباته. مرة فى جواب من جبهة القتال، ومرة فى جواب من المعتقل، والتالتة فى جواب من غربته)) تفاعلتْ أذنى مع طبقة الصوت. أدركنى ذاك الشيء الذى أرهقنى تحديد اسمه، كان فيضًا من شجن يسرى فى طيات الحدة القاطعة. أشارتْ إلى رأفت أنْ يقترب منها وطوّقتْ رسغيه بكفيها. تحاملتْ بهما على ساعديه حتى انتصبتْ. «مشتْ» بقامتها المقوّسة ورفضتْ مساعدته. عندما اقتربتْ من الباب أدارت وجهها إلينا وقالت ((اشربوالشاى قبل مايبرد)) بعد خروجها نبّهنا بهاء إلى أكواب «الشاي» المُستكينة فى أيدينا. عندما رفعتُ كوبى إلى فمي، سرى بخارواهن فى أنفي. كان السائل قد برد قليلا، لكننى استشعرتُ الرائحة والطعم المُميّزيْن. أصغيتُ لأصوات الرشفات شاردًا. انتبهتُ على صوت سميرالرائق يتلوقصيدة الراحل (ما تيسّرمن سورة العبور) عندما انتهى أخرج عادل علبة «سجائره» وداربها علينا. تجمّعتْ الأكواب فى «الصينية» ودارعود ثقاب يُشعل «سجائرنا».