باجرائها سادسة تجاربها النووية فجر أمس، تبدو كوريا الشمالية وكأنها تتعجل تنفيذ «سيناريو الجحيم» فى شبه الجزيرة الكورية، بعد أن تفلت أعصاب احد طرفى المواجهة، فيبادر باطلاق الرصاصة الأولى فى حرب لن تبقى ولن تذر، وربما تستخدم فيها أسلحة غير تقليدية تحت الضغط الرهيب والمتواصل الذى تنتهجه بيونج يانج مع المجتمع الدولى، الذى أعيته الحيل فيما عساه أن يفعله مع هذه الدولة المارقة المهددة للأمن والاستقرار فى شمال شرق آسيا، والعصية على الترويض والتفاهم بلغة الحوار وليس الصواريخ الباليسيتة والقنابل الهيدروجينية. تسخين جبهة شبه الجزيرة الكورية يضع القوى الإقليمية والدولية، وعلى رأسها الولاياتالمتحدة أمام خيارات وقرارات مصيرية لوضع حد فاصل للأزمة النووية الكورية، فمع كل قفاز تحد يلقيه فى وجهها الشطر الشمالى من شبه الجزيرة الكورية لا ترد هذه القوى سوى بالدعوة لاجتماعات طارئة لمجلس الأمن لاصدار بيانات ادانة وتوسيع نطاق العقوبات المفروضة على بيونج يانج، والدفع بتعزيزات عسكرية، ثم ترقب ما ستقدم عليه كوريا الشمالية فى المرة القادمة، وتبقى المشكلة بدون حل جدى ولا حتى بادرة أمل ولو ضعيف بتليين مواقف بيونج يانج المتشددة. وقد يكون من المفيد اقترابنا من الأزمة الكورية من منظور التحليل النفسى الذى يتقدم بخطوات على النواحى السياسية والعسكرية، إذ أنه من الضرورى سبر أغوار شخصية «كيم جونج أون» زعيم كوريا الشمالية، ذلك الشاب صغير السن، وحديث العهد بالحكم ومسئولياته، فهو مفتاح اللغز فيما يدور ويدبر فى الشطر الشمالى، ف «كيم» يُستفز بسهولة شديدة، وكان طفلا حقودًا ومشاكسا ويهمل دراسته من أجل لعب كرة السلة المهووس بها، حتى إنه كان ينام محتضنا كرة السلة، هذه الملامح استفاضت فى شرحها من خلال سلسلة حوارات صحفية خالته « كو يونج سو» التى تولت رعايته فى بدايات التسعينيات من القرن الماضى، عندما كان يدرس فى سويسرا، ولم يعرف عنه آنذاك أنه كان طالبا متفوقا ومجتهدا بل كان ينجح بالكاد، واليوم يتحكم فى مصير شطر من القارة الآسيوية. عناده وتصلبه وافتقاره للخبرة السياسية جعلته يدارى مواطن ضعفه وقصوره باشهار سيف القوة دائما مع كل كبيرة وصغيرة، وبدون تمييز بين ما يستحق التعنت واللين ويتشبث باللعبة النووية التى ورثها عن أبيه، ويراها طوق النجاة الأكيد للنظام الشيوعى القائم فى بلاده من الانهيار والتحلل، وتسيطر عليه بقوة نظرية المؤامرة، لاعتقاده بأن الغرب يسعى جاهدا للاطاحة به من السلطة. وفى العلن يظهر «كيم جونج أون» وكأنه المتحكم فى مقاليد الأمور فى كوريا الشمالية، وذاك صحيح إلى حد بعيد، لكن لا يغيب عن المراقبين للأوضاع أن المؤسسة العسكرية لها دور ومصلحة فى الابقاء على الأوضاع الملتهبة فى شبه الجزيرة الكورية، لأنها تضمن لها من جهة بقاء أنظار الكوريين الشماليين شاخصة فى اتجاه ما يروج له على انه تهديد للأمن القومى للبلاد، ويتحملون ما يواجهونه من مشكلات حياتية، ونقص فى الخدمات ومن جهة أخرى يحتفظون بمواقعهم المتقدمة فى هيكل السلطة وما يلحق بها من مزايا وعطايا، وهى كثيرة ومغرية للغاية. يتصل بالبعد النفسى أن احدى معضلات العلاقة المتوترة بين الشطر الشمالى الكورى والعالم، لا سيما الولاياتالمتحدة تتمثل فى صدام الارادات، فكوريا الشمالية لديها نزعة واضحة لا تخطئها العين فى أن تعامل كدولة كبرى، وأن تحصل على اعتراف دولى صريح بكونها قوة نووية وتنضم للنادى النووى الدولى المقتصر على تسع دول حتى الآن، فى حين أن الفاعلين فى شمال شرق آسيا كاليابان والصين وكوريا الجنوبية يريدون أن يكونوا هم أصحاب اليد والكلمة العليا، وأن تنصاع بيونج يانج لارادتهم فى تجميد برنامجها النووى والصاروخى الذى احرز تقدما لافتا، وهذه حقيقة لا يجب التهرب منها، فالقوة التفجيرية للقنبلة الأخيرة أكبر عشر مرات على الأقل من تلك التى تم تفجيرها فى سبتمبر الماضى بتجربتها النووية الخامسة، ومكوناتها مصنعة محليا 100٪، وحدث ولا حرج عن تطويرها منظومة صواريخها الباليستية وبعيدة المدى، فكل هذا خلفه جهد علمى وبحثى وتكنولوجيا متطور وجبار يسترعى الانتباه والاندهاش، رغم ما فرض عليها من عقوبات شاملة، مفارقة غير مفهومة قد تفسرها بلجوئها للسوق السوداء لكن حتى إن كان هذا صحيحا فلديها الكوادر البشرية القادرة على الانجاز. يريد الغرب كذلك أن تستجيب كوريا الشمالية دون شرط ولا قيد، ولا تناور ولا تتعنت، هم يرغبون أن تكون طيعة بين ايديهم يشكلونها بالقدر والكيفية التى تروق لهم، وفى مخيلتهم أن إيران انتهى بها المطاف بقبول إبرام اتفاق مع الولاياتالمتحدة، بعد أن قاومت وتمنعت لسنوات متعاقبة. وحينما اشتمت بيونج يانج أن سندها وداعمها الأكبر الصين لا يسايرها فى صراع الارادات فإنها انقلبت عليه، ولم تعد تتأثر به، ولا بضغطه عليها، متجاهلة أن بكين تنظر لما هو ابعد وارحب من نظرتها الضيقة لمجريات الأمور والأحداث، فالصين قوة اقتصادية عالمية ولها مصالح لا حصر لها مع جميع الأطراف بمن فيهم من يخالفها فى التوجه السياسى والاقتصادى، وتتصرف، خاصة فى أوقات الأزمات الحادة، من منطلق أنها عضو مسئول فى الأسرة الدولية عليه مهام جسام واجبه القيام بها. ولاحظ أن الصين التى كانت دائما متحفظة فى ردود افعالها على ما يصدر من كوريا الشمالية ادانت بوضوح تام تجربة أمس النووية، ودعت بيونج يانج لتحكيم العقل والجلوس على مائدة الحوار التى تتفاداها بشتى السبل الممكنة وغير الممكنة، خشية أن تقودها لتقديم تنازلات تؤثر على استمرارية النظام. ويجدر بنا أن نقر بأن العالم فى حيرة من أمره ولا يدرى كيف يتصرف مع كوريا الشمالية واستفزازاتها السافرة المستمرة، فهو غير راغب فى خوض حرب سيكون لها كلفتها المالية والاقتصادية والسياسية، فما أيسر أن تشعل حربا، وما أصعب اخمادها، فى الوقت نفسه فإن سياسة الضغط السلمى عبر العقوبات واحكام الحصار على الشطر الشمالى لم تؤت ثمارها وكانت اشبه بمن يحرث فى الماء. إزاء هذا الوضع المعقد ما هى خيارات المجتمع الدولى تجاه الأزمة الكورية؟ بعض الدوائر فى الولاياتالمتحدة تدفع باتجاه توجيه ضربة استباقية للمنشآت النووية والصاروخية الكورية الشمالية، لكى يتم ايصال رسالة لبيونج يانج أن التمرد على الارادة الدولية سيواجه بكل حسم وقوة، وتنذر اى دولة تفكر فى السير على نفس الدرب بأن العقاب الأليم سيكون فى انتظارها، مما سيضمن خفض منسوب التمرد على الساحة الدولية، الخيار غير مأمون الجوانب والنتائج، لأن بعض التقارير المخابراتية تتحدث عن أن مفاصل البرنامج النووى الكورى الشمالى محصنة داخل كهوف فى الجبال ويلزم لاختراقها قنابل من نوعية خاصة ربما لا تتوافر فى الترسانة الأمريكية حاليا، كما أنها سوف تستفز بيونج يانج وتجعلها ترد بشكل جنونى على طريقة شمشون الجبار الذى سيهدم المعبد فوق رءوس الجميع. الخيار الثانى البحث عن وسيلة ناجعة لاستمالة جانب الشطر الشمالى واقناعه بالتحاور، وهى مهمة عويصة، لكنها ليست مستحيلة، شريطة أن تعدل الدول الكبرى سياستها حيال بيونج يانج من منطلق لا افراط ولا تفريط، وتسعى للوقوف فى منطقة وسط تلبى تطلعات انهاء الأزمة الكورية وهواجس ومخاوف كوريا الشمالية، الحل إذن فى جرعة ثقة ومرونة من كل الاتجاهات وليست جهة واحدة، فالتوازن سيكون عنصر الجذب للطرفين، حتى لا يحس طرف بأنه انتصر وتفوق على الآخر وأخضعه لارادته. لمزيد من مقالات محمد إبراهيم الدسوقى