ربما لم أتردد من قبل فى اختيار موضوع للكتابة قدر ترددى هذه المرة. والمناسبة هى البيان الصادر تأييدا ودعما للمدير السابق لمكتبة الإسكندرية عقب صدور حكم قضائى بحبسه لمخالفات جنائية. مبعث ترددى أن «الموضوع» لا ينفصل عن «الشخص»، والكتابة عن الأشخاص فى بلادنا بل وثقافتنا عموما تجنح إما إلى التقديس أو الشيطنة، وبينهما يضجر الناس بأى تقييم موضوعى آخر يقابل بين المنجزات والأخطاء. حسمت ترددى حين قررت أن أبحث فى الموضوع ذاته بصرف النظر عن الأشخاص أو التصنيفات أو الانتماءات، فهذا هو الأجدى والأبقى. أصلُ الموضوع هو البيان الصادر عن مجموعة شخصيات محترمة وجليلة، لنصرة المدير السابق للمكتبة لأنه يشى ببعض المعانى الملتبسة الجديرة بنقاش عام لا تُنكر فيه المناقب الشخصية للمدير السابق للمكتبة ولا ينفى حقيقة أن الإدانة لا تكون إلا بصيرورة الحكم القضائى باتا غير قابل للطعن إعمالا لقرينة/ أصل البراءة. المعنى الأول أن البيان قد انطوى على رسالة ملتبسة حين خلط بين الشخصى والموضوعى بشأن الحكم القضائى الصادر بالإدانة. فأن يكون المرء شخصيةً شهيرة ومهنية ناجحة وصاحب منصب دولى سابق.. فهذه أمور اكتسبها الرجل عن جدارة لكنها بأى معيار لا تضفى بذاتها حصانة أمام جهات المساءلة القضائية. ولعلّ الرسالة الإيجابية التى أراد البيان توصيلها للرأى العام قد ارتدت وتحوّلت إلى رسالة معاكسة سلبية. فالمجتمع الدولى مثلا بمؤسساته ومثقفيه الذى يشير البيان إلى أن المدير السابق للمكتبه أحد شخصياته المعروفة والمقدّرة وأحد المدافعين عن قيمه ومبادئه، هذا المجتمع الدولى والغربى تحديدا لا يعرف أن يكون لأحد ما حصانة تعفيه من المساءلة بسبب شهرته أو مركزه المهنى المرموق أو عراقة أسرته أو حتى منصبه السياسى الرفيع. فدولة القانون فى أوروبا وأمريكا لا تتردد سلطاتها فى القبض على المشاهير والنجوم واقتيادهم إلى مخفر الشرطة لمجرد ارتكابهم جريمة سير بسيطة. أما عن مساءلة السياسيين الذين أسدوا خدمات كبيرة للدولة فحدّث ولا حرج. من هنا أخشى أن يكون بيان نُصرة المدير السابق للمكتبة فى مواجهة حكم قضائى محمولا برسالة جانبها الصواب. الشهرة الدولية أوالمنصب المرموق أو الشهادات العالمية الفخرية أمور تُشرف صاحبها ولا شك، وتصلح لأن تؤخذ فى الاعتبار فى مجال تقدير العقوبة تخفيفا أو وقفا أو عفوا بعد النطق بها لكنها لا تحول دون مبدأ المساءلة القضائية فى ذاته، وإلا فإننا نهدر مبدأ مساواة المواطنين أمام القانون، وهو مبدأ يمثل حجر الزاوية فى أى دولة متحضرة ذات حكم رشيد. والدول لا تتحضّر فقط بفاعلية سلطات إنفاذ القانون ورشادة حكمها ولكن أيضا بتجرد وقيم مثقفيها. ولهذا بدا غريبا ما تضمنه بيان التأييد من إقحام عبارة «صورة مصر فى الخارج» فهذه عبارة غير موفقة لأنى أدرك يقيناً أن كل الشخصيات الجليلة المحترمة الموقّعة على البيان تدرك هى أيضا أن الإخلال بمبدأ المساواة أمام القانون لاعتبارات شخصية مهما بدت طيبة هو أمر يسيء لصورة مصر فى الخارج ولا يحقق لها مصلحة من أى نوع كان. أخشى الاعتقاد (كما يحق لغيرى اعتقاد العكس) أن الخلط بين الشخصى والموضوعى فى البيان يعنى أن الأشخاص العاديين من سواد الناس من خارج دوائر الضوء والنجاح والشهرة يخضعون وحدهم للمساءلة والمحاسبة غير مأسوف عليهم، وغير مصحوبين ببيانات تأييد ونصرة، ولا أعتقد أن الشخصيات الجليلة المحترمة الموقّعة على البيان تُقر أمرا كهذا. المعنى الثانى هو أن صياغة بيان نصرة المدير السابق للمكتبة ينطوي- بالقراءة الفاحصة- على احتمال التأثير على حياد القضاة الذين سينظرون الحكم المطعون فيه فى درجته الاستئنافية. لا يقلّل من هذا الاحتمال العبارة التقليدية الواردة فى مقدمة البيان من احترام أحكام القضاء لأن مجمل عبارات البيان وهو موجه أصلا للرأى العام يصعب استبعاد تأثيرها المحتمل على القضاة، مع أن هناك وسائل قانونية أخرى متاحة لانتقاد الحكم القضائى وتفنيده وتجريحه ووصفه بكل نعوت عدم المشروعية لكن هذا يحدث فقط فى قاعات المحاكم من خلال نظام الطعون القضائية التى ينظمها القانون. من ناحيتى أومن دائما كأستاذ للقانون بحق إبداء الرأى (القانوني) فى أحكام القضاء لكن بضوابط ثلاثة: أولها ألا يُخل الرأى قيد أُنملة بالاحترام الواجب للقضاء والقضاة، وثانيها ألا ينطوى الرأى على تأثير محتمل لدى الرأى العام على قضاة المحكمة المنوط بها نظر الخصومة القضائية أيا كانت طبيعتها، وثالثها أن يتقيد الرأى بالضوابط والشروط القانونية المعروفة لأهل التخصص فلا يُعقل أن يُنتقد حكم قضائى بينما الانتقاد نفسه غير قانونى لأنه يخالف المبادئ القانونية العلمية المتعارف عليها. أُشفق على قضاة المحكمة التى سيقدر لها أن تنظر الطعن فى الحكم الابتدائى بإدانة المدير السابق للمكتبة وقد أحكمنا منذ الآن الدائرة حولها، وأصدرنا حكما شعبيا بأشد العبارات تُبرِئْ الرجل الذى لا يشكك أحد فى جدارته المهنية أو شهرته أو عدد درجات الدكتوراه الفخرية التى حصل عليها والتى انصب عليها النقاش واتخذ منها بيان التأييد أساساً للمطالبة ببراءته. المعنى الثالث هو أن بيان التأييد لم يفصل بين مسألة أن القضاء ملزم بتطبيق التشريعات الجنائية القائمة متى دلّل ثبوتيا على وقوع المخالفة واستخلص عنصر القصد الجنائى فيها (حتى ولو تمثّل فى صورة الخطأ أو الإهمال) وبين كون هذه التشريعات تنطوى على مبالغة فى التجريم. هاتان مسألتان مختلفتان، فقد رأينا فى حالات سابقة أحكاما بالإعدام أو السجن المؤبد استنادا لتشريعات قد يرى البعض فيها مبالغة فى التجريم أو إفراطا فى العقاب، لكن القوانين بمجرد نفاذها تكتسب صفة ملزمة ولا يملك القاضى رفض تطبيقها وإلا أُعتبر هو نفسه مرتكبا لما يُسمى بجريمة إنكار العدالة. ما يمكن قوله إن التشريع الجنائى المصرى ككل تشريعات العالم يأخذ بسياسة التفريد الجنائى الذى يتجاوز فيه القاضى «التسعيرة العقابية» المنصوص عليها للجريمة الواقعة كأن يُخفف العقوبة أو يأمر بوقف تنفيذها آخذا فى الاعتبار الشخصية القويمة للجانى أو ماضيه أو دوافعه وبصفة عامة كل ظروف وملابسات الواقعة، بل قد يصدر حكم الإدانة ثم يستخدم رئيس الدولة حقه فى العفو، وهو حق دستورى تعرفه الأنظمة القانونية فى العالم بأسره. خلاصة القول دعونا ندافع عن مبدأ المساواة أمام القانون ونحمى ولو بأخطائنا وزلاّتنا استقلال وحياد القضاء والقضاة. هذا يمنح أملا للبسطاء والضعفاء وسواد الأرض، ثم أنه يُعلى من «صورة مصر فى الخارج» ولا يُنقص منها بأى معيار من المعايير. لمزيد من مقالات د. سليمان عبد المنعم