* ترامب يبحث عن «حرب مقدسة».. وشى يداعب «الحلم الإمبراطورى».. والاقتصاد كلمة السر * «أمريكا أولا» فى مواجهة إستراتيجية «عقد اللؤلؤ» وإنذار مبكر من حريق عالمى * نظام دولى متعدد الأقطاب أو الكارثة ..أوروبا متوجسة والعرب غارقون فى «عتمة جوتة» * التنين الآسيوى مصنع العالم يضخ تريليون دولار استثمارات خارجية عبر مبادرة «الحزام والطريق» * الصين تنتزع صدارة الاقتصاد العالمى قبل عام 2041..و أمريكا لن تستسلم وتحاول تقليم أظفارها * تنافس رهيب على الأسواق والتكنولوجيا والمجال الحيوى والصدام المقبل على حواف المحيط الهادى
ضربة واحدة من كرة «بنج بونج» أسقطت الحائط الحديدى بين أمريكاوالصين، فى السبعينيات، خرج التنين الآسيوى من القمقم وضمن العم سام إزعاج الاتحاد السوفيتى ثم الإجهاز عليه..«نصر بلا حرب» ترددت أصداؤه فى واشنطنوبكين،وبعد ذوبان ثلوج الحرب الباردة، تواصلت علاقات الدولتين فى مد وجزر: تعاون راسخ وتنافس رهيب، حب مستحيل بين قوة صاعدة وأخرى مهيمنة، علماء الإستراتيجية يطلقون على ما يجرى «فخ ثوسيدس»، تذكيرا بمعارك «أثينا» و«إسبرطة» قديما، دخان الصدام بين الجبابرة على قيادة العالم يخفى حجم النار ونقطة اشتعالها، مثلما تضيع الحقائق وسط غبار الصخب، زلزال جيوسياسى عالمي، لا أحد يستطيع التنبؤ بتوابعه، الأمل والخوف عواصف تملأ أشرعة الشرق والغرب، يبحث الرئيس ترامب عن «حرب مقدسة»، ويتمسك الرئيس شى بالحلم الإمبراطورى، كل يرتب أوراقه لتكون له اليد العليا، يشحذ أسلحته: تكسير عظام وضرب تحت الحزام..عراك الأفيال- أو لهوها- كارثة على رءوس الحشائش، ومن ثم يقول جوتة أديب ألمانيا العظيم: «من لا يعرف كيف يتعلم دروس الثلاثة آلاف سنة الأخيرة يظل فى العتمة»، بمعنى أن مراجعة أحداث التاريخ شرط لفهم الذات والعالم، وموقع الأمة وحدود الفعل. تلك السطور محاولة لإزاحة العتمة عن مشاهد اللحظة واستكشاف تأثيراتها على موازين القوى فى العالم والإقليم. سريعا، انقضى شهر العسل بين العملاقين، منذ أيام هاتف الرئيس الصينى نظيره الأمريكى ليبلغه أن علاقات البلدين «تأثرت بعوامل سلبية»، على خلفية تحركات السفن الحربية لأمريكا فى بحر الصين الجنوبى وصفقات سلاح مع تايوان، وإطلاق كوريا الشمالية صواريخها. كانت قمة ناجحة بين الزعيمين، أبريل الماضى، فى منتجع مارالاغو الذى يملكه ترامب بفلوريدا، قد طوت– مؤقتا- «تغريداته» المهاجمة للصين خلال حملته الانتخابية، إذ وصفها بالعدو المتلاعب بالعملة الذى يغزو أمريكا بالبضائع، وتوقعات ستيف بانون كبير مستشارى ترامب بأن تخوض واشنطن حربين، واحدة فى بحر الصين وأخرى فى الشرق الأوسط. تسجيل النقاط تسجيل النقاط بين واشنطنوبكين عرض مستمر، آخرها فى «قمة العشرين» بهامبورج الألمانية، ذكرت صحيفة «الإندبندنت» أن كواليس القمة كشفت عن أن العالم لم يعد يتطلع إلى قيادة أمريكا، وتلك أنباء جيدة للصين فى لعبة الأمم. برزت أمريكا أعظم قوة على الأرض، عقب انتصارها بمعية الحلفاء على النازية والفاشية فى الحرب العالمية الثانية، ووراثتها الجغرافيا السياسية والنفوذ الإمبراطورى من بريطانيا وفرنسا، ثم دخلت فى صراع مرير مع الإمبراطورية السوفيتية حتى تفككت، تزعمت أمريكا «النظام العالمى الجديد»، صارت «العولمة» على الغارب: حرية الأسواق وهيمنة الشركات متعدية الجنسيات، وشعارات حقوق الإنسان، أعلن فرانسيس فوكوياما «نهاية التاريخ»، قاصدا الانتصار النهائى للرأسمالية، أغفل أن حركة التاريخ ماكرة لا تعرف السكون، أخذت الصين إحدى امبراطوريات الدنيا القديمة تستيقظ من ثباتها، لتنهمك فى سباق مفتوح على النفوذ والهيمنة، بأدوات ناعمة وخشنة، محققة نبوءة «نابليون بونابرت» وتحذيره:«عندما يفيق التنين الصينى من غفوته سوف يهز العالم». استثمرت تراجع حضور واشنطن، ونفاد صبر الأمريكيين من أثمان دور القيادة الدولية، يقول الجنرال مارتن ديمبسى رئيس الأركان الأمريكى الأسبق- فى مقابلة مع مجلة «فورين بوليسى»- إن محاولة بلاده لعب دور شرطى العالم كلفها كثيرا، وأفقدها الرؤية الاستراتيجية. يجمع المؤرخون على أن فرط التوسع العسكرى «الامبريالي» لحماية المصالح الاقتصادية هو «علة» انهيار القوى العظمي، فى عالم تحكمه المصالح وتردعه القوة. لحظة تاريخية دون مبالغة، تقف الإنسانية، اليوم، أمام «لحظة تاريخية»، تتزاحم الامبراطوريات بالمناكب على أسباب القوة ومعززات الهيمنة، ألم يقل شوبنهاور «العالم إرادة وامتثال»، قوى تسعى للصعود بدأب للإمساك بالزعامة، وأخرى تقاوم الاضمحلال بضراوة، ظهور قوة كبرى جديدة على المسرح الدولى حدث نادر، يحمل قدرا من الانتظام أو الفوضي، عراك غير مسبوق بين فلسفات الحداثة ومابعد الحداثة وغرام الغرب بالقوة، وبين حكمة الشرق النابعة من تعاليم كونفوشيوس الروحية-المادية وأفكار صن تزو «أبوالاستراتيجية». فى ثلاثينيات القرن العشرين دٍُِِعى جنرال صينى إلى مباراة كرة قدم - لم تكن مألوفة بعد فى الصين- وبعد دقائق من بدء المباراة، أمر الجنرال معاونيه بإعطاء «كرة» لكل لاعب، وفض هذا النزاع السخيف؟!.. ينفر العقل الصينى من المنافسات الصارخة ذات النتائج الحاسمة، ويستملح الاستراتيجيات الناعمة، بينما «الصراع» فكرة حاكمة للعقلية الغربية، منذ صراع الآلهة عند الإغريق، حتى «صراع الحضارات»، عند صمويل هنتنجتون. ومن جماع التعارض بين الرؤى والأسلوبين الغربى والصيني، يجرى وضع حجر الأساس لسرديات، تتهاوى معها تصورات البريطانى «كيبلينج» عن الشرق والغرب، وتبرز خرائط اقتصادية جديدة: يسقط ترامب «اتفاق التجارة عبر المحيط الهادى»، تخرج بريطانيا من الصف الأوروبى، وتمد القارة العجوز بقيادة ألمانيا يدها للصين مرة واليابان مرة، لضمان حرية التجارة. المشهد أعقد من هذا المثال المغرق فى الوضوح، لماذا؟..لأن المسألة تشبه شجرة تخفى غابة، الغابة هنا لا يمكن رؤيتها فى كليّتها إلا من زاوية تتبع ألاعيب التاريخ ماضيا وحاضرا، والذى يراهن الجميع على تغييره وفق رؤيته، من أجل مستقبل مغاير. كيف تتصرف القوى الصاعدة، ورد فعل الدول المسيطرة تجاهها؟. المقياس الحقيقى للقوة تتحدث نظريات السياسة عن أن كل قوة عظمى تهدف لزيادة أنصبتها من القوة الشاملة، بقدر سعيها لحجبها عن الخصوم، المنافسة الجيوسياسية الكبرى المحتدمة على الموارد الطبيعية والأسواق والتكنولوجيات تشعل محركات الصراع، لهذا تقرع مراكز المال والأبحاث نواقيس الخطر فى واشنطن، محذرة صانع القرار من أن الإمبراطورية الأمريكيّة دخلت مسار الأفول، أمام شراسة التحدى الصيني، مطالبة باحتواء خطر التنين قبل أن ينفث نيرانه. ولأن مقياس القوة لأى دولة يبنى على أساس القوة الاقتصادية، تقدر المؤسسات الدولية أن تصبح الصين القوة الاقتصادية الأولى بالعالم، بين عامى 2025، و2041. لتزحزح الولاياتالمتحدة من موقع تبوأته أكثر من 100 عام. تحررت واشنطن من الاستعمار البريطاني، ثم تمكنت من بسط نفوذها، تدريجيا، على الاقتصاد العالمي، تعززت ريادتها عقب الحرب العالمية الثانية، صار «الدولار» العملة المرجعية عبر العالم. بالتزامن، سقطت الصين فى القرن التاسع عشر، فريسة للاستعمار الأوروبى ثم الياباني، بدت كديناصور هائل غاص فى مستنقع بلا قاع، ولما استقلت عام 1949، على يد ماو، كانت أفقر من الكاميرون، تعرضت لمجاعات أودت بحياة الملايين.. وفى أوائل الثمانينيات شرع الزعيم الإصلاحى دينج شياو بنج فى بناء اقتصاد (إنتاجى)، أنشأ هذا البلد مصانع وطرقا ومرافئ، مدنا وبلدات جديدة، مطارات وقطارات مغناطيسية ومركبات فضاء، وجيشا جرارا حاذقا وتكنولوجيات حديثة.. نمط الإنتاج فى الصين «الشيوعية» حاليا رأسمالى بالكامل، يتمثل دور الدولة فى الحفاظ على الرساميل والثروة داخل البلاد، والتخطيط واستثمار قوة العمل، ضمنت المعجزة الاقتصادية ارتقاء موازيا لمستوى حياة أكثر من مليار عامل، وفى عملية لم يشهد التاريخ لها مثيلا، انتشل 450 مليون صينى من دائرة الفقر الجهنمية- يوازى 80% ممن انتشلهم العالم، خلال القرن الماضي- تغيرت الصين من مجتمع زراعى إلى صناعى/ زراعى مُنتج، ارتفعت صادراتها، فى عقد واحد، من 10مليارات دولار إلى تريليون دولار، اليوم تتجاوز تجارتها الخارجية تريليونى دولار، إنها مصنع العالم تكتسح منتجاته كل الأسواق والبيوت. المنطق يقول إن كل قوة اقتصادية لابد لها أن تعبر عن نفسها سياسيا، وبالضرورة عسكريا. ما زالت أمريكا أقوى دولة على وجه الأرض، يرجع موقع «أمريكيان إنترست» هذه الصدارة إلى اقتصادها الديناميكي، واستقرارها الدستوري، والصف الطويل من حلفائها وشركائها. قبل عشرين عاما كان اقتصادها يمثل 25% من الاقتصاد العالمي، اليوم 18%، بناتج 18 تريليون دولار، ومعدل نمو أقل من 3% سنويا، بينما تقول تقارير البنك الدولى إن اقتصاد الصين ينمو بنحو 7% سنويا، بناتج 12تريليونا، مما يعنى أنها ستكون الأولى عالميا، ما بين عامى 2025و2041، يعلل جوزيف ناى الأستاذ بجامعة هارفارد، فى كتابه «مستقبل القوة»، سر الروح الجديدة لدى الصينيين، باعتقادهم أن بلادهم فى حالة صعود، والولاياتالمتحدة فى حالة هبوط، يعرفون أن المارد الأصفر ينقصه الكثير ليتجاوز العم سام، لكنه يهرول صوب القمة. رقعة الشطرنج تصدر بكين أكثر مما تستورد، يحقق ميزانها التجارى فائضا يفوق 160 مليار دولار سنويا، فى حين تستورد واشنطن أكثر مما تصدر، عجز ميزانها التجارى بلغ تريليون (1000مليار) دولار عام 2011، تغرق فى 19 تريليون دولار ديونا، وبحسب زبيجينو بريجينسكى مستشار الأمن القومى الأسبق- فى كتابيه «رقعة الشطرنج» و«رؤية استراتيجية»- ربما تصل إلى 23 تريليون دولار خلال سنوات، ما يوسع الهوة بين ناتجها الإجمالى ونسبة الدين، أزمة مديونية غير مسبوقة فى التاريخ، تنذر بتلاشى الهيمنة الأمريكية على الاقتصاد العالمي، دفع ذلك الرئيس ترامب للتراجع عن الانخراط فى سياسات العولمة، نظرا لإرهاق الاقتصاد وازدياد البطالة وتدنى مستوى حياة الأمريكيين. أظهرت سياسات ترامب مدى الاستخفاف بمصالح الحلفاء، خاصة الأوروبيين، خلال رسم السياسات الدولية، حيث يتكئ القرار الاستراتيجى الأمريكى إلى نظريات الردع وهيراركية القوة، واستكشاف الأرض بالدم انبثاقا من مفهوم «الامبراطورية»، تحت شعارات براقة عن الديمقراطية وحقوق الإنسان..إلخ. هذا المفهوم تستبدل به بكين مرحليا آليات التعاون مع الآخرين، دون تدخل بشئونهم، إنها استراتيجية «عقد اللؤلؤ» التى تتبعها فى استعراض قوتها، تبنى كتلا كبرى وشبكات للتعاون، تجسد ذلك بإعلان الرئيس الصينى جين بينج عام 2013، مبادرة «حزام واحد وطريق واحد»، لبعث طريق الحرير القديم ونشر السلام والتعاون، وتبادل المعرفة والمنفعة بين الشعوب، بتكلفة نحو تريليون دولار، ويربط 68 دولة بقارات آسيا وإفريقيا وأوروبا، بشبكة طرق برية وبحرية ومشاريع بنى أساسية: النقل، والاتصالات، وأنابيب الطاقة، والجامعات، والخدمات اللوجستية.. ضخت الصين 40 مليارا حتى الآن، ودشنت البنك الآسيوى للبنية التحتية والاستثمار، عام 2015، بمشاركة 49 دولة، بميزانية مبدئية 100 مليار دولار - حاولت واشنطن عرقلة إقامة البنك، بوصفه تهديدا- يسهم انسياب التجارة بين دول «الحزام والطريق» فى رفع حجم الاستثمارات والتجارة الدولية، وتعزيز أدوات القوة الناعمة -المساعدات والتجارة- لحل الصراعات، وصولا إلى انتقال الثقل الاستثمارى من الغرب المتخم بالأزمات، إلى الشرق الباحث عن الفرص والمالك لرءوس الأموال، تحوز بكين ثلاثة تريليونات دولار احتياطيات نقدية، وهى أكبر دائن ومستثمر فى أذون الخزانة والسندات الأمريكية. تنظر واشنطن بعين القلق إلى صعود التنين، تحسب حساباتها، وسط توقعات الخبراء بأنها ستتخذ خطوات ضد العملاق الآسيوي، آجلا أم عاجلا، الخلاف بينهما ليس تجاريا بحتا، إنما يتعلق بالسيطرة السياسية والاقتصادية حول العالم. يرى بعض مفكرى الغرب ودوائر الحكم أن الصراع حتمي، مع اقتناع تام بأنه لا قوة على الأرض تستطيع مواجهة الترسانة الحربية الأمريكية الأضخم والأكثر تطورا، بإنفاق سنوى 700 مليار دولار- ثمانية أضعاف نظيره الصيني- وقد تشعل واشنطن نار الحرب بمناطق بأسرها، دون أن يعبر جندى أمريكى المحيط، تلافيا للدروس المريرة فى فيتنام والعراق.. تحاول أمريكا الآن «تقليم الأظفار اللينة» للصين، أقرّ الكونجرس عام 1995 برنامجا سريا لتفكيك الصين بالضغط على بطنها الرخو، أى النزعات العرقيّة والدينيّة، لانستبعد ظهور «داعش» فى تركمانستان الشرقية، بدعم أمريكي- تركي، كما تعمل واشنطن على إشعال العداوات بينها وبين جيرانها: الهند واليابان وفيتنام والفلبين وغيرها، حول ثروات بحر الصين الجنوبى. السياسة مجرد مظهر لمصالح اقتصادية وراءها، وميادين الصراع تتسع باطراد، النزال العسكرى بين أمريكاوالصين مغامرة مستبعدة، لكنها ليست مستحيلة، سيناريو كابوسى لايريد أحد أن يلقاه يقظا أو نائما، قد يفنى البشرية إجمالا، الصين هى القوة الثالثة عسكريا، أنياب نووية وثقل سكانى واستراتيجى حاسم، وبحسب أشد المراقبين تشاؤما، فإن هذا يظل «خيار أمريكا الأخير» لمنع قيام قوة عظمى صينية مهيمنة عالميا، وتتبقى فى جعبتها خيارات أخري. الأوراق الرابحة من هذه الخيارات محاولة كسر الثقل الاقتصادى لبكين، تجبرها على فتح أسواقها للبضائع الأمريكية، ورفع قيمة «اليوان» أمام الدولار، وتحفيز الاستثمار بأمريكا، وتثبيط الشركات الصينية. لعبة عض الأصابع المثيرة تجرى بحسابات معقدة، العلاقات الأمريكية- الصينية توصف بأنها أهم علاقات ثنائية عالميا، بينهما حبل سرى غير منظور، الميزان التجارى بينهما يفوق500 مليار دولار، تميل كفته لمصلحة الصين، وللمفارقة هى أكبر دولة دائنة لأمريكا ولا تستطيع الأخيرة إيجاد بديل عنها، لسداد فوائد الدين وعجز الموازنة. ورقة رابحة بيد الصين، تمكنها، إن أرادت، من هز الاقتصاد الأمريكى، ما جعل الخبراء يصفون هذا الواقع ب«المعقد» الذى جعل واشنطن تابعة لبكين، وأسقطها بفخ المديونية الذى أوقعت فيه من قبل دول العالم الثالث، بربط قروض صندوق النقد الدولى المقدمة إليها بشروط قاسية. ويعد الاقتصاد الصينى الأكثر مناعة أمام الأزمات الدولية، لازدهار دخول معظم أفراد الشعب، مما يضمن طلبا محليا هائلا لا ينضب، وهذا رهان متفرد على السوق المحلية، بالإضافة إلى شراكاتها الواسعة فى أوراسيا مع الاتحاد الأوروبي، وتجمع «دول البريكس» وتمددها فى إفريقيا وغيرها. برغم ذلك تتحاشى الصين بذكاء وصبر استراتيجى التلويح بأوراقها، أمريكا أهم أسواق صادراتها ومنشأ التكنولوجيا، العلاقات القوية على المستويات كافة تبرد حرارة الصراع، الصين بلد يفهم حركة التاريخ ويعتمد عليه، تدرس القرارات بعناية وأناة، حتى لا تصدر وكأنها قنبلة تهوى فوق الرءوس أو لغم يتفجر تحت الأقدام، يسعى «التنين» إلى عالم متعدد الأقطاب والتوازن بين المنافسة والتعاون، فى معادلة القوة العالمية، بمنأى عن التهديد، خلال القمة الأمريكية-الصينية عرض الرئيس شى حزمة استثمارات لإيجاد 700 ألف وظيفة بأمريكا، وفتح أسواق بلاده للسيارات والزراعة الأمريكية، ورفع سقف رهانات التنسيق المشترك فى ملفى كوريا الشمالية والتجارة الدولية، صيانة للاستقرار والاقتصاد العالميين. تحت الظلال فى عمق الصورة وتحت ظلال ألوانها الكثيفة، تواجهنا مشاهد من اختيار مخرج عبقرى اسمه التاريخ، تدرك الصين نقاط ضعفها مثلما تعى نقاط قوتها، كل ملمح لزيادة نفوذها على المسرح العالمي، ربما يفضى لضعف البناء الداخلى واحتمالية عدم الاستقرار فى هذا البلد/القارة المتعدد القوميات، وسط تفاوت طبقى متزايد، يرى أهله أنهم ينتمون للعالم الثالث، البون واسع بينهم وبين أمريكا وأوروبا، من حيث نصيب الفرد من الناتج القومي. حتى لو انتزعت الصين –وستفعل- قمة الاقتصاد العالمي، فسوف تواجهها مشكلات النمو، والاضطرار لمضاعفة الإنفاق العسكري، كبحا لمهددات مصالحها التجارية والاستراتيجية، وضمان تدفق مشتقات الطاقة إلى قلبها الصناعي، تلك هى شرارة التوترات. العام الماضي، زرت الصين، وجدتها خلية نحل، النقاش مع المواطنين والمسئولين، دفعنى إلى استنتاج «أن الحلم الصينى» لن يقف عند حد، امبراطورية قديمة تبعث من جديد، فى سابقة تاريخية، تبنى مجالها الحيوي، خصما من الهيمنة الأمريكية، تقاتل ببصيرة على كل الجبهات، إهمال إحداها عاقبته الهزيمة النكراء، لا أحد يقدر على التنبؤ بنتيجة المواجهة، يحكم الأمريكان العالم بالسلاح والتكنولوجيا والأساطيل، لكن السياسة والاقتصاد وعزيمة الشعوب تحفر أحيانا مسارات غير متوقعة للتاريخ. دخلت بريطانيا الحرب العالمية الأولى عام 1914، مزهوة بأضخم أسطول، لم يتخيل أحد يومها أن الامبراطورية التى لا تغيب عنها الشمس، ستصير أثرا بعد عين، خلال عقود قليلة، ومهما تكن نتيجة الصراع الأمريكى-الصينى فإنه من العسير أن تنفرد قوة وحيدة بقيادة العالم المعاصر، يمكن استشفاف هذا، من تحت طبقات المعني، فى معالجات كبار الاستراتيجيين الأمريكيين لكيفية استمرار تفوق بلدهم، هنرى كيسنجر «النظام العالمى» وبريجينسكى «رؤية استراتيجية»، كررا الدعوة للتعاون المحسوب مع بكين، محذرين من وقوع الأطراف العالمية الكبرى فى شَرَك الحسابات الخاطئة. إن انهيار الأنظمة الدولية، يكون مباغتا وعنيفا، فى ذروة عصر التنوير هوت أوروبا فى الحروب النابوليونية، ولم يتخيل أحد أن القرن العشرين بثوراته المعرفية والتقنية والمعلوماتية صاحب السجل الأكثر دمارا، بحربين عالميتين.. إذن هل البشرية على مقربة من المنحدر؟. «عتمة جوتة» الإجابة غائمة عسيرة حقا، لكن التنافس ينبع من الطبيعة الوحشية وأنانية النوع الإنساني، تدافع الأديان عن قيم الخير والتسامح، بينما تهيمن النظرية الداروينية:«البقاء للأقوى» على روحانيات العالم، الفائزون فى مسيرة التحولات الجيو-سياسية هم الأقدر على التكيف ومغالبة العوائق وإزاحة المنافسين. فى لعبة الأمم تظل الحقائق ناقصة، مادامت الظلال تحيطها كالثقوب السوداء. هنا، قد يقول قائل إن المنافسة المتأججة بين التنين الصينى والاخطبوط الأمريكى لا تخصنا أو تعنينا، لكن هذا سيكون خطأ فادحا يضاف إلى أخطائنا الجسيمة المتراكمة، لأن شرور المواجهة أو فوائدها، ستضاف إلى أرصدة الطرفين، لا مصلحة شعوب المنطقة، إلا إذا أفقنا من غيبوبة الوعى وخوار الإرادة وضلال السلوك ودموية الفعل.. ظل الشرق الأوسط، منذ القدم، مسرحا دائما لصراع الإمبراطوريات على النفوذ، مزق الاستعمار الغربى خرائط المنطقة، وأعاد صياغتها مرات على مقاس مصالحه، دون توقف حتى اليوم. يرى المؤرخ الألمانى ليوبولد رانكة «أن هناك حركة دائمة فى الحياة صعودا كانت أم هبوطا، وأن الأفكار قد تكون هى القوى المحركة لتطور التاريخ من بين مجموعة من القوى»، ومن المؤكد أن الغطس إلى أعماق أكبر ليست «حلا أمثل» للغريق، لهذا لا تحتاج البلاد العربية إلى البحث عن شركاء من خارجها لإخماد حرائقها، أو مزيد من العنف والعبث بالدين وتشويهه، تحت يافطة «الجهاد» زورا وبهتانا، إنما تحتاج إلى التعاون الخلاق مع كل القوى العالمية لا التبعية، وتدشين نظام عربى جديد، يراعى طموحات الشعوب وآمالها فى حاضر كريم ومستقبل مشرق، وإلا فالضياع مصير الجميع على مائدة الكبار، رياح الشرق تهب بقوة والمسافة هائلة بين تاريخ تصنعه بحضورك وقدرتك على الفعل، وتاريخ يُصنع لك فى غيابك، فى ظل عجزك عن الفعل، وأخطر أسباب النكبات العربية، أننا لانبارح «عتمة جوتة» وظلمتها نكرر أخطاءنا وكأننا بلا وعى أو ذاكرة..!