وسط غابة من الحواجز الأسمنتية والأسوار المعدنية التى تحيط بجسور لندن الشهيرة و»قصر ويستمنستر»، حيث مقر البرلمان البريطانى، و»قصر باكنجهام»، والمتحف البريطانى، وساحة «الطرف الأغر»، تتحرك الأجساد البشرية بصعوبة وارتباك وترتطم ببعضها البعض فى الكثير من الحالات. فبرغم اتساع الشوارع والميادين فى لندن، إلا أن الحواجز الأسمنتية والأسوار المعدنية، التى وضعت بكثافة منذ الاعتداء الإرهابي على مقر البرلمان و«جسر ويستمنستر» فى مارس الماضى، والهجوم على «بارا ماركت» فى يونيو الماضى، هذه الحواجز حولت وسط لندن إلى «مناطق أمنية» مُحاصرة ومخنوقة. ويشتكى الزائرون من صعوبة الحركة ومن غزو الإجراءات الأمنية القبيحة لمدينة جميلة. لكن كل شئ يهون من أجل الأمن. ولندن تظل أسعد حالاً من باريس حيث يشتكى الزائرون من أن الوضع يشبه «ثكنة عسكرية» ليس فقط بسبب انتشار الحواجز المعدنية والأسوار، بل أيضاً بسبب انتشار عناصر الجيش وقوات الشرطة المدججة بالسلاح. تتغير معالم الكثير من المدن الأوروبية الكبيرة بشكل متسارع للتصدي لظاهرة الهجمات الإرهابية عبر الشاحنات التى تستخدم ك«سلاح للقتل» قليل التكلفة ولا يستدعى الكثير من التحضير أو المهارة. والهجوم الذى هز «ميدان لاس رامبلاس» فى برشلونة الأسبوع الماضى، وقبله هجمات لندن فى مارس ويونيو الماضيين، وبرلين فى ديسمبر الماضى، ونيس فى يوليو 2015، والتى أسفرت عن سقوط مئات القتلى والجرحى، هذه الهجمات من شأنها فقط أن تعزز غزو الأسلاك والحواجز والأسوار للمدن الأوروبية. ومع أن المارة يدركون أن تلك الغابات من الحواجز المعدنية هى لحمايتهم من «خطر الدهس العشوائى»، إلا أن الإستياء من انتشارها لا يخفى على أحد. فقد حولت تجربة السير بحرية لإكتشاف المدينة والتمتع بها إلى تجربة مخيفة. ففى كل خطوة وعند كل حاجز أو سور تراودك المخاوف من هجوم محتمل. فمنذ الهجوم على مقر البرلمان فى ويستمنستر، عززت الشرطة البريطانية من الحواجز والأسوار الخرسانية والمعدنية لحماية وسط لندن بتجمعاته البشرية. وتقول الشرطة أنها أطلقت تسمية على هذه الإجراءات الأمنية الجديدة وهى»الحواجز المضادة للشاحنات العدائية»، أى التى تستخدم كأداة لقتل المدنيين فى عمليات إرهابية مخطط لها مسبقاً. ويقول الخبير الأمنى ديفيد فيديسيت، الذى كان يعمل في وحدة مكافحة الارهاب فى الشرطة البريطانية، إن هذا الخطر الأمنى الجديد يشكل تحدياً لأجهزة الأمن البريطانية والأوروبية منذ انتشرت ظاهرة إستخدام الشاحنات لدهس أكبر عدد من المشاة بشكل عشوائي. ويوضح:» بسبب تجربة بريطانيا ضد الجيش الجمهورى الإيرلندي، فإن الإجراءات الأمنية كانت مصممة خصيصاً للحماية من خطر الهجمات الإرهابية بعربات مفخخة أو قنابل مزروعة. لكن لندن، وغيرها من المدن الأوروبية، لم تكن مصممة لحماية المدنيين من الدهس بالشاحنات». فالشوارع الممتدة لأميال والمفتوحة على الاتجاهات الأربعة والميادين الكبيرة، تُعد هدفاً سهلاً أمام المتطرفين لشن هجمات قاتلة. وأمام تحدى الحفاظ على هوية المدن الأوروبية المفتوحة وفى نفس الوقت حماية المدنيين من خطر العمليات الإرهابية بإستخدام الشاحنات، سيعقد رؤساء المدن الأوروبية الكبيرة اجتماعاً فى مدينة نيس الفرنسية فى سبتمبر المقبل لمناقشة كيفية حماية مدنهم بدون أن تفقد هذه المدن طابعها المفتوح. فلا أحد يريد أن يعيش أو يتحرك خلف المتاريس الخرسانية والحواجز المعدنية. والتحدى الجديد أمام المدن الأوروبية هو توفير الأمان بدون أن تبدو مثل ثكنة عسكرية. ويوضح «المعهد الملكي للمهندسيين المعماريين البريطانيين»، فى مبادئه الإرشادية للتصميمات المعمارية لمكافحة الإرهاب، أن «تصميمات مواجهة القتل والعنف يجب أن لا تتعارض مع هوية المدينة والسكان والمجتمع، بل ينبغي أن تعكس فلسفة المجتمع المفتوح والتعددى». فتحويل المدن الأوروبية إلى حصون عسكرية وتكبيلها بالإجراءات الأمنية الماثلة بوضوح أمام العين هو بحد ذاته انتصار لمنفذى هذه الهجمات وإيديولوجيتهم فى زرع الخوف. وهناك بالفعل نماذج ناجحة للموائمة بين الأمن والطابع المفتوح للمدن. فالمعماريون ومصممي المدن بالتعاون مع الأجهزة الأمنية شيدوا بالفعل في ميادين فى أمريكاوبريطانيا ودول أوروبية أخرى تصميمات تمزج بين الوظيفة الأمنية والجمالية. وفى حالات كثيرة لا يلاحظ المارة أن تلك التصميمات هدفها الأساسى هو الحماية. ففى الملعب الجديد لفريق ارسنال البريطانى، وُضع أمام مدخله الشاسع تمثال برونزى ضخم وأوانى ورد برونزية كبيرة تبدو وظيفتها للوهلة الأولى جمالية فقط، لكن هدفها الأساسى أمنى. وفى شارع «وول ستريت» فى نيويورك، القلب المالى لأمريكا، وضعت مكعبات برونزية حول مدخل الحى تلعب دوراً مزدوجاً، فهى من ناحية تؤمن المكان ومن ناحية أخرى تضيف لمسة جمالية. وفيما تنتشر بعض هذه «الحواجز الأمنية الجميلة» حول المبانى الحكومية والسفارات والمطارات والمنشآت الهامة فى أمريكا وأوروبا (بعضها قادر على منع سيارة تسير بسرعة 80 كلم في الساعة)، إلا أنها ليست منتشرة فى غالبية الميادين العامة والشوارع الأوروبية الممتدة. لكن الهجمات الأخيرة تعزز انتشارها كوسيلة للحماية مع الحفاظ على جماليات المكان. فمدينة نيس الفرنسية أنفقت 30 مليون يورو على إجراءات أمنية من هذا القبيل. فإذا كان الإرهاب عملاً شديد القبح، فإن مواجهته لا يجب أن تعكس قبحه.