لم يكن غريبا أن تصبح القاهرة ملاذا آمنا لكثير من العرب الذين فقدوا البيوت والمدن. والقاهرة، بيتا ومكانا، رحبت بهم، واحتضنتهم حتى تنتهى كوارثهم، على أمل العودة، واستقرار الإقليم الذى لم يستقر منذ (نكبة فلسطين)، حتى (كارثة سوريا)، مرورا بتدمير ليبيا، والعراق، واليمن، والسودان...!! والقاهرة بيت للغنى والفقير. الكل يعيش ويبنى، والأحياء الراقية تجاور الأحياء الشعبية، مرورا بالمناطق غير الآمنة . والهجرة إلى إلقاهرة لم تبدأ فى العشرية الثانية من القرن الحادى والعشرين، رغم أن الزحف الكبير جاء بعد هذا التاريخ، لكنها كانت قديمة ومستقرة منذ نشأة هذه المدينة الفريدة. ولذلك صار عدد سكان القاهرة أكثر من ربع سكان مصر بالكامل، منهم النازحون والمهاجرون من كل أقاليمها، من الوجهين: القبلى والبحرى، ومن المدن الساحلية إلى الصحراوية. أما عدد القاهريين الأصليين فمحدود جدا، وإذا صادفت أحدهم فهو فاكهة نادرة، يحكى لك عن جمال القاهرة القديم، وعن سلوك القاهريين، قبل هذا الزحف الأسطورى، وإغراقها بكل الثقافات والعادات، الجميل منها والقبيح! ولا نبالغ عندما نقول إن (القاهرة) هى مصر بالكامل، وأنها متحف مفتوح، وكل ركن فيها يحكى قصة أسطورية على مر العصور والأجيال. ستجد أحياء فرعونية، مثل(مدينة أون،عين شمس)، أقدم العواصم فى العالم القديم، وستجد الأحياء اليونانية والرومانية، والقبطية، والإسلامية، سترى كل هذه الأحياء حية نابضة بطرازاتها المعمارية، وجوامعها وقلاعها وحصونها التى لا تعد، ولا تحصى، ولا تقدر بثمن. حتى القاهرة الحديثة لا تزال تستلهم مبانيها، فتأخذ من الغربية (إنجليزية وفرنسية أوروبية وأمريكية)، ومن الشرقية (خليجية ومغربية وشامية)، ولنشاهد أحياء: الزمالك وجاردن سيتى ومصر الجديدة، حتى مدينة نصر والتجمع الخامس و6 أكتوبر. ثم بلغ النزوح إلى القاهرة مبلغا لا يمكن أن تكون قد بلغته أى مدينة أخرى، وتستطيع ببساطة أن تجد أحياء تم رييفها بالكامل، وتجد نماذج من كل المحافظات، بل من ال(4726 قرية)، إن لم تكن من ال(26757) كفرا ونجعا وعزبة! وكل مواطن له بيتان، بيت فى بلدته الأصلية، وآخر فى القاهرة، حتى أصبحت (القاهرة الصغرى) عاصمة البلاد، أكبر المحافظات من حيث عدد السكان. والقاهرة تئن، وتعانى. وقد أصبحت أحياؤها الراقية(جراجات للسيارات)، ويكفى أن تذهب إلى حى(جاردن سيتى)، وكان منذ سنوات قليلة نزهة للقاهريين، لترى كيف تحول إلى ( باركينج سيتى)، أما حى (الزمالك)، لؤلؤة المدينة، فقد طفحت عليه، العشوائيات، ولا أحد يتحرك، كأن القاهرة العظيمة ليس لها صاحب يقول: كفى! أنقذوا القاهرة قبل أن تسقط فريسة للفوضى المدمرة فى كل مناحى الحياة، ومشكلة القاهرة ليست فى نمو العشوائيات وحدها، إنما فى التكدس السكانى والهجرة إليها، فالمدينة العاصمة تضم 32% من المناطق غير الآمنة، منها 14 منطقة تتطلب الإزالة فورا!! والخطورة ليست فى الأحياء الجانبية وحدها، بل فى أحياء تقع فى قلب المدينة، وتستطيع فى جولة صغيرة أن تكتشف ذلك بنفسك. ويتساءل الناس: أين الحكومة؟ وأين المحافظة؟ والشوارع مكدسة بكل ألوان وسائل المواصلات المتحركة دون خوف؟ أما رجل المرور فمجرد مظهر رمزى، ولا تشعر إلا بالشفقة عليه. ويتحدثون عن خسائر الاقتصاد من جراء أزمة المرور، وتقول التقديرات إنها تقترب من 500 مليار جنيه! (وصف القاهرة)، مخيف ومأساوى، ونشارك جميعا فى تدميرها، وإذا ما حاول أحد أن يفعل شيئا، فلن يجد مَنْ يسمع له! فالتقسيم الإدارى لا يساعد، والمسئولية مشاع بين المحافظة والحكومة، بل إن مشكلة القاهرة أعمق من هذا، فهى على نطاق محافظات ثلاث، (القاهرة والجيزة والقليوبية )! والقاهرة تبلغ مساحتها 1881.04كم2، وتنقسم إلى أربعة أقسام، بها 38 حيا، تنقسم بدورها إلى شياخات، تحتاج إلى تنظيم وإدارة مستقلة، على أن يتحمل السكان جزءا من الإدارة، ليكون لكل حى شخصية معبرة عن تاريخه، ويشارك السكان فى إدارته. ولن تكون خطوة إنشاء عاصمة إدارية جديدة، إلا خطوة لإنقاذ القاهرة مثلها مثل مترو الأنفاق. وقد خفف العاصمة الإدارية من الزحام والتكدس وأزمات المرور الخانقة، لكن الفوضى، وغياب إنفاذ القانون، وعدم احترام السكان للتنظيم، هو الطريق إلى خنق القاهرة. فالقانون غائب،ولا ينفذه أصحاب القانون، وهنا يجب أن يشعر كل مواطن يعيش فى القاهرة أنه سيتأثر بغياب هذا القانون، ونقول له: إن العاصمة يقتلها الزحام، وغياب القانون، والفوضى، والإهمال؟ فماذا تنتظرون؟ إن القاهرة الكبرى يعيش بها 22.8 مليون بلا تنظيم، ولا قانون يُنفذ، أو يُحترم؟ فهل يتحرك البرلمان والحكومة لسن قانون خاص لتنظيم الحياة فى القاهرة قبل فوات الأوان؟ فإذا استطعنا أن ننجز ذلك سننقذ القاهرة من الشكوى، وإذا تركنا القاهرة إلى حكم محلى حقيقى يشارك فيه الناس، سنتخلص حتما من الزحام، وسنكون قد دفعنا أحياءنا ال 38 للخروج من كارثة الاستمتاع بالفوضى. وقد نرى تنافسا مثمرا بين الأحياء الراقية والشعبية، مثلا يتنافس فى الجمال أهالى السيدة زينب وأهالى الحسين لإعادة الحيين التاريخيين إلى مجدهماٍ، كما أن تجار خان الخليلى فى حاجة لتنظيم أنفسهم فى مجلس يعيد للمنطقة جمالها، أما سكان جاردن سيتى ففى حاجة إلى إعادة الحدائق إلى مساكنهم، وبناء (جراجات) تحت الأرض، حتى يتخلص من سُبّة أنه مجرد (جراج) كبير، حتى الأحياء الجديدة باتت أسوأ من شوارع القاهرة القديمة، وأصبح الزحام وعدم التنظيم يسودان أحياءها، رغم ثراء أبنائها فى 6 أكتوبر والتجمع. والتنظيم يقع على عاتق الحكومة وحدها، أما الناس فعليهم المشاركة الإيجابية، حتى نرد الجميل للمدينة (جوهرة الشرق)، ليس بالغناء أو الشعر، ولكن بالعمل، والتنظيم الجاد، وعلى الصوت العالى أن يتوقف عن رفض الإصلاح الفورى. وما يجب أن تقوم به الدولة والبرلمان أن يكون هناك قانون خاص بالقاهرة يختلف عن باقى المحليات، تلزم به المؤسسات وكل سكان القاهرة، على أن يكون قانونا بسيطا، ومعروفا، ومعلقا على رقاب كل مواطن، وعندئذ سنحمى القاهرة، ونحافظ على تطورها الحضارى فى المستقبل. فوضع القاهرة الراهن يجب ألا يستمر، وإذا استمر فلن نعرف الفرق بين حريق يحدث بفعل حروب المدن والإرهاب، أو تبين تخريبها بالفوضى والعشوائيات، والنمو غير المخطط، فكل هذا يؤدى إلى مصير واحد. وقانا الله شر الإرهاب والفوضى، وغياب القانون وعدم قدرة المؤسسات على تنفيذه. لمزيد من مقالات أسامه سرايا;