سياسة الحذر والنفس الطويل التى اتبعتها مصر فى التعامل مع الأزمات الإقليمية أحرزت قدرا من النتائج الإيجابية، وفتحت طريقا يمهد للقيام بدور فاعل يمكنها من أن تتحول إلى رقم مهم، إذا جرى التغلب على بعض المعوقات وتوظيف التطورات بصورة تجعل مصر عنصرا رئيسيا تملك زمام المبادرة ولا تنتظر من يمسك بيدها. الدور الذى بدأت تلعبه فى الأزمة السورية، جاء من رحم مناخ دولى موات، وحسابات إقليمية معقدة، ورؤية سياسية وضعت مجموعة من القواعد والثوابت جنبت مصر الانزلاق فى مشكلات كثيرة، لا تزال هناك دول تعانى تداعياتها. الرهان على توسيع نطاق هذا الدور كبير، بما يتجاوز الوساطة فى اتفاقى الهدنة فى كل الغوطة الشرقية وشمالى حمص بين نظام بشار الأسد وكتلة من معارضيه، لأن مصر تملك مؤهلات تسمح لها بمزيد من التأثير، شريطة أن تحسن قراءة الخريطة الحالية، وتتحول بسلاسة من لاعب كان ينظر له البعض على أنه أثير المقعد الاحتياطى إلى لاعب مؤثر فى الشوط قبل الأخير من المباراة الفاصلة التى جرت معظم أشواطها على الملعب السورى منذ سنوات. المهارات التى تملكها مصر تساعدها بسهولة للتخلص من الجلوس على مقعد البدلاء الوثير، فهى لم تتورط فى الحرب السورية ولم تتلوث يدها بدماء الأبرياء، ومقبولة من جانب عدد كبير من القوى السورية، ولديها شبكة جيدة من العلاقات الإقليمية والدولية، وعندها حزمة كبيرة من المصالح الإستراتيجية، وكلها مكونات من الضرورى الاستفادة منها لزيادة دورها الإقليمي. الأضواء التى سلطت عليها أخيرا لم تأت من فراغ، وجاءت عقب فترة عصيبة من المعاناة والقلق والترقب والدعم المستتر، خوفا من دخول الأراضى السورية مرحلة عارمة من الانفلات والفوضي، وسط معركة وجدت فيها قوى ضالتها لتصفية حساباتها، وأخرى رأت فيها فرصة لانتزاع النفوذ، وثالثة حاولت من خلالها إعادة ترسيم خريطة المنطقة. بعد أن لاحت فى الأفق مؤشرات ظاهرة للأمن والاستقرار، من الضرورى أن تتخلى مصر عما كان يوصف ب »الانكفاء« لأسباب كانت مفهومة وتتعلق بترتيبات البيت من الداخل، ولا تتردد فى انتزاع مكانتها حفاظا على الأمن القومي، المعروف أن حمايته تبدأ من الخارج. الفرصة المناسبة تحتاج إلى إرادة تتواءم مع المتطلبات الإستراتيجية، ورغبة تتماشى مع التحديات، وقدرة تستوعب الحسابات المتقلبة، والأهم رؤية صائبة تعكس الطموحات المصرية التى لم يتم التعبير عنها بوضوح حتى الآن، وكلنا يكتفى بتلمس خطاها من خلال بعض التصريحات التى تصدر من هنا أو هناك، دون أن تتبلور فى مشروع متكامل يعبر عن خطة بعيدة المدي. الفاعلية الحقيقية تفرض تحديد الأهداف والعمل على تنفيذها، وربما لاحظ كثيرون أن هذه المسألة كانت أشد وضوحا فى الأزمة الليبية المعقدة، والتى تعاملت معها مصر بصبر وأناة، تتدخل عندما كانت هناك ضرورة للتدخل، وتحجم إذا وجدت سببا قاهرا للإحجام، وفى الحالتين المراقبة عن كثب لم تتوقف لحظة، وهو ما جعلها محطة رئيسية فى جدول أعمال الأممالمتحدة، وكثير من القوى الليبية، فضلا عن نجاحها فى جذب أنظار عدد معتبر من العواصم الدولية. رأينا روما التى سحبت سفيرها بعد مصرع الطالب الإيطالى ريجيني، تعلن عودة سفيرها فى القاهرة قبل يومين على قاعدة مصالح اقتصادية وسياسية مختلفة، بعضها فى ليبيا، وتصم آذانها عن سماع صرخات أسرة الطالب ومحبيه وعديد من المنظمات الحقوقية، وتضرب عرض الحائط بمصدات وضعت لمنعها من استعادة العافية الدبلوماسية للعلاقات مع مصر، وتأكدت أنها قد تتعرض لمخاطر كبيرة بعد تلقى تهديدات من الجيش الوطنى الليبى بإبعاد سفنها عن سواحل بلاده واتساع نطاق الامتعاض من ألاعيبها فى مناطق كثيرة من ليبيا. الظروف المواتية فى الأزمة الليبية، محليا وإقليميا ودوليا، تسمح بعدم استبعاد دوائر التأثير، ويمكن أن تفضى لمضاعفة معالم النفوذ فى المستقبل، عندما تدرك مصر أنها تملك عناصر قوة لا تتوافر لدى أطراف أخرى منافسة، وتستفيد من الرصيد، السياسى والأمنى والاجتماعى وامتداداته على الساحة الليبية، لأن هناك قوى دولية متباينة أضحت على استعداد للبحث بجدية عن حل للأزمة الليبية. الأجواء الراهنة فى كل من العراق والقضية الفلسطينية وحتى اليمن وإفريقيا، مهيأة أيضا لتقبل دور مصرى محوري، اكتسب ثقله الإيجابى من تراكمات التريث وتجنب الصدام مع قوى أخري، ناهيك عن فرملة الدور القطرى الذى لعب دورا مهما فى إشعال الأزمات وسعى لوضع العراقيل فى طريق جهات كثيرة حاولت الاقتراب من هذه الأزمات. عقب الموقف الصارم من الدول الأربع (مصر والسعودية والإمارات والبحرين) تجاه الدوحة وكشف دعمها لجماعات إرهابية، انشغلت قطر بهمومها الداخلية والتفكير فى أدوات ناجحة للحد من انعكاسات المقاطعة المفروضة عليها، ولم تعد تملك رفاهة التخريب عن عمد أو محاولة خلخلة الأمن والاستقرار فى المنطقة. التحول التدريجى المصرى من الانكفاء للانخراط، يستلزم نظرة شاملة للأزمات، مع مراعاة الفروق بين أزمة وأخري، والإدراك للحقيقة التى تؤكد أن مصر تحافظ على أمنها القومى عندما تنتقل من مرحلة رد الفعل إلى الفعل، وتتخلى عن السلبية مهما تكن دوافعها السياسية والأمنية والاقتصادية، وتتمسك بسلاح المبادرة ولا تنتظر من يقدم لها ما تجود به مصالحه. من حسن الحظ أن الأزمات المشتعلة فى المنطقة بدأت تلملم جانبا من أشلائها، ومصر تخطو خطوات كبيرة نحو الاستقرار، ونجحت فى تقوية دفاعاتها الأمنية، بل امتلكت قدرة هجومية غابت عنها كثيرا، الأمر الذى يعزز القناعات أن المرحلة المقبلة هى مرحلة للفعل وليس الحذر، والتمركز فى مكانة تتناسب مع الصعوبات التى تمر بها المنطقة، وعملية الفرز التى تجرى على قدم وساق، وكل دولة تتموضع فى الزاوية التى تناسب مؤهلاتها وطموحاتها وقدراتها وإرادتها. ولعل الاختراق الذى بدت معالمه فى أفريقيا يكون حافزا لتوسيع نطاقه، ويتحول من ترميم العلاقات إلى تأسيسها وفقا لتصورات لا تكتفى بمجرد تقليل الخسائر، لكن حسب رؤية تسعى إلى تعظيم المكاسب، ولن يحدث ذلك سوى بمزيد من الانخراط والمبادرات. لمزيد من مقالات محمد أبوالفضل