نحن لانزال نحيا الفوضى والفشل الكبير الممتد، فى السياسة، وعجز وشكلية المؤسسات وعقم أفكارها وعجز أدائها طيلة أكثر من ستة عقود من موت السياسة والسياسيين، وضعف وهشاشة ما يطلق عليهم مجازًا رجال الدولة، لأن هذا النموذج لا ينتج فى الفراغ، ولا يخرج من بين ثنايا الكتب ومراجع العلوم السياسية والاجتماعية، وإنما من قلب التجارب والمؤسسات والأحزاب السياسية. عالمنا يتغير بسرعة، ومازال الزمن المصرى يبدو متثاقلاً، حيث يعاد إنتاج أفكار قديمة وشاحبة تم تجاوزها فى الواقع الموضوعي، حيث يبدو جليًا الانفصال بين النخبة السياسية الحاكمة والمعارضة، وبين تغيرات وتحولات النظام الاجتماعي، وتناقضاته، ومشاكله. نخب بينها وبين حياة الجمهور الناس حجاب حاجز، نفسى وإدراكى ومعرفي. نخب لا تقرأ إلا قليلاً، والأحرى بعضها، يتحدثون عن عالم لا يعرفونه جيدًا، والذين يتابعون ويعرفون فى العمق خارج أطر هذه النخب، وتم إقصاؤهم واستبعادهم لأنهم يملكون من المعرفة والخبرات والمواهب والكفاءات والخيال السياسى ما يجعلهم مثيرين للأسئلة والقلق، ويهتكون أقنعة الكذب. نخب لاتزال غير قادرة على تجاوز مواريث الأفكار القديمة الهرمة والمهترئة، وتجارب الفشل فى الزراعة والاقتصاد والسياسة والأفكار الميتة التى يحاولون إحياءها دون جدوى! نخب سياسية تطبق تجارب فى البناء والاقتصاد والإدارة لم يعد أحد فى عالمنا الجنوبى الجنوبى يطبقها إلا الفاشلون تاريخيًا كيف يمكن أن تنجح هذه النخب السياسية فى ظل سياسة اللاسياسة، ودون ثقافة المسئولية من الحس السياسى بها والضمير الفردى والوطنى اليقظ والملتزم والمحاسبة السياسية والقانونية الصارمة على الأخطاء أو على خطاب الأكاذيب الذى يلغو به بعض النخب أو غالبها، فى الحكم أو فى ثرثرة المعارضة السياسية! من أين يأتى هذا اللغو السياسي، وعفوية الخطاب وتناقضاته؟! يتناسل اللغو من غياب التكوين المعرفى والمهني/الوظيفي، ومن ضحالة المعرفة والوعى السياسي، والأخطر من هذا الانفصال المروع بين النخب، والدراسات العلمية المتخصصة فى كل ما يواجهنا من مشكلات بنائية فى الدولة والنظام التسلطي، وفى تشكيلة البناء الاجتماعى واختلالاته. يزدهر اللغو السياسى والفنى من النظرة الفنية السطحية للمشكلات والأزمات، ومن الحلول الوقتية التى لا تواجه منابت الظواهر والمشكلات، وإنما تحاول التخفيف من احتقاناتها. هذا العقل البيروقراطى الاحتوائي، الذى يتعامل بخفة مع كل كارثة معلنة، ويرمى إلى احتواء آثارها ومنع انتشارها، فى كل مظاهر اختلالاتنا فى الإرهاب، والعنف الدينى والاجتماعي، وفى ارتفاع مؤشرات العنف الجنائي، واتساع سوق الجريمة، وفى البطالة، وفى الجمود الديني، وفى انهيار النظام التعليمي، وضحالة القائمين على العمليات التعليمية. عقل تجريبي، ولكن دون تجربة حقيقية، يتمدد اللغو وخطاباته من ذهنية التجربة والخطأ، التى لا تنتج سوى الأخطاء الكبرى التى تتناسل وتهيمن. مجتمع أدمن الكسل والتواكل، وتبرير كل كوارثنا بأنها قضاء وقدر! إنها ثقافة تواكلية تنفى مسئولية الإرادة والعقل والفعل الإنسانى عن جهله أو عدم تخصصه، أو أخطائه الصغرى والكبرى! وراء اللغو وخطاباته نخب سياسية، وبعض المثقفين الذين أدمنوا حالة المعارضة غير المسئولة، من خلال التركيز فقط على نقد السلطة السياسية الحاكمة، ولا بأس فى ذلك، لكن ليست كل الاختلالات هى نتاج للممارسة السلطوية، وإلا كأن السلطة تدور فى فضاءات من الفراغ! التركيز على السلطة دون نقد المجتمع، والنظام الاجتماعي، واختلالات القيم والثقافة الشعبية، يغدو من قبيل الاختلال فى التحليل، ويعزز ذلك تعثر عمليات ميلاد الفردانية والفرد الحر، وشيوع ثقافة الإجماع والامتثال والانصياع والأبوية والطاعوية ذات الجذر الاجتماعى والأسانيد الدينية الوضعية ، إنها أيضًا تعبيرات قيمية وسلوكية لا مبالية ناتجة عن انكسار الانتماء الوطنى وتحلل أواصره والتشويش على رموزه ومرجعياته التاريخية، نظرًا للتعليم الردىء، وتسييس عملية كتابة التاريخ الوطني، بل وتديينه وفق ثقافة الأغلبية الدينية والمذهبية! ثمة تراجع للإحساس الجمعى بعدم الانتماء الوطني، وتفككه إلى انتماءات فرعية مناطقية ودينية ومذهبية وعرقية... إلخ - وسرديات أولية مترعة بالأساطير والأوهام التاريخية! تفكك فى السردية التاريخية الجامعة لمصر وصراعات دينية وأيديولوجية وعرقية حولها، وعالم من الكتابات الرديئة والشعاراتية واللاتاريخية تشوش على الوعى الجمعى للأمة المصرية، وتسييس سلطوى للتاريخ الوطنى وشخصياته وأحداثه، أسهم بقوة فى إنتاج أزمة الانتماء الوطني. نخب سياسية وثقافية أدمنت تغييب سياسة الأمل فى الوعى الوطني، على نحو أدى إلى حياة فيزيقية على الحافة تبدو وكأنها تغالب هيمنة الخواء والفشل والضياع! والسؤال هل هذه نخب جديرة باسمها؟!. لمزيد من مقالات نبيل عبدالفتاح