من الرحم ذاته يولد التقى والفاسق والمقتصد، أى الذى خلط عملا صالحا بآخر غير صالح!.. وللظروف ذاتها تتعدد زوايا الرؤية وتختلف وأيضا تتصادم، فالسكون الذى يراه البعض هدوءا وقبولا على قاعدة «السكوت علامة الرضا» يراه آخرون نذير عاصفة قد لا تبقى ولا تذر!، لأن الفرق كبير بين السكون وبين السكوت، ويكفى القول إن المتوقع الوحيد بعد السكوت هو النطق أى الكلام!!، أما المتوقع بعد السكون فهو مروحة تمتد من النطق إلى الحركة.. والحركة تتراوح بين الإيماء، وبين العنف إلى أقصى مدى! ومن المخلوقات من لديه القدرة على توقع ما بعد السكون، إذ تأخذ بعض الحيوانات والطيور بل والحشرات فى إصدار الأصوات والانطلاق فى الحركة لدرجة القفز من الأماكن المغلقة أو التى بالقرب من المياه قبيل حدوث الزلازل، وكذلك فى مملكة الإنسان هناك من لديه القدرة على توقع ما بعد السكون، وأنا هنا لا أتكلم عمّن لديهم علم من الكتاب، أى علم لدنى يمكنهم من خرق الزمان والمكان، ولا أتكلم عن الذين لديهم ملكة الحدس وبعض دراية بمواقع النجوم، وإنما أتكلم عن المسلحين بنوعين خطيرين من الأسلحة، الأول هو الوجدان السليم والعقل اليقظ المدرب، والسلاح الثانى هو العلم أو قل الضفيرة العلمية المجدول فيها التاريخ مع الاجتماع مع علم النفس الاجتماعى مع السياسة، وقد كان صديقى الكبير الراحل الأستاذ كامل زهيرى مسلحا بدرجة أو أخرى بهذين السلاحين، إذ أشهد أنه قبل يناير 2011 كان دوما ما يقول إنه «شامم ريحة شياط وموت تخيم على مصر، وأنه خايف من أن يكون الاختراق المعادى قد وصل إلى سرطنة نخاع البلد»!! وهنا قد أحتاج لتوضيح لازم، هو أننى لا أمارس «التنبيط» على الوضع القائم، ولا أمهد للتنصل ومن ثم القفز من مركب اخترت الوجود فيه وعمدت إلى بذل الجهد، الذى هو أقصى ما أستطيعه ليبقى صامدا فى مواجهة عنف التيارات وعدم مواتاة الريح فى كثير من الأوقات، ولكننى وكما أسلفت فى مقال فائت كان عنوانه «مثقفون بغير أطماع» فإن لكل مرحلة من المراحل السياسية ضروراتها وأولوياتها ومن ثم منهجها وأدواتها، وقد يفاجأ من لا يلتفتون إلا إلى مكاسبهم الذاتية أن صاحب القرار أو صانعيه يتجهون إلى إعادة إنتاج ملامح من مراحل سابقة، كان يظن أو يعتقد أنها مضت وولت بغير رجعة، ولكنهم إذا أعطوا أنفسهم فرصة للتفكير غير الأسير لمصالحهم الضيقة لعرفوا أن هناك من البشر ما هو مبرمج كالآلة يمكن أن تستخدمها وتلبى هى طلباتك مادمت قد عرفت كيف تعمل تلك الآلة.. وإذا انقضى زمنها ظهرت طرز أكثر فاعلية وكفاءة ثم تغييرها، فيما بشر آخرون يستعصون على أن يعملوا بالأزرار!.. وأعود إلى حتمية قراءة السكون قراءة تعتمد على وجود السلاحين اللذين أشرت إليهما، وهما الوجدان السليم والعقل اليقظ المدرب، ومعهما ضفيرة التاريخ والاجتماع وعلم النفس الاجتماعى والسياسة!. ولقد قيل قديما نسبيا إن الشعب المصرى يشبه النيل يفيض ويغدق، أو يقحط ويبخل فيما الناس لا تتوقع هذا ولا ذاك، ولذلك كان حرص المصريين على مراقبة حركة المياه فى النهر من عند مساقط الأمطار فى هضبة الحبشة، وعلى طول المجرى فى إثيوبيا والسودان إلى مصر، ولذلك أيضا وتحسبا من مفاجأة الفيضان المدمر أو القحط الحارق لجأ المصريون - شأن بقية الشعوب الحية الموجودة فى بيئات نهرية - إلى بناء السدود والخزانات والقناطر والأهوسة، وصار الرى علما عمليا يدرس فى كليات الهندسة ويرتقى الباحث إلى الدكتوراه وما فوقها!. ومن النهر والرى إلى البشر والمجتمع نكتشف أن السدود والخزانات والقناطر والأهوسة تصبح السلطات التى يجب الفصل بينها، والمؤسسات التى يجب أن تعلو فوق الأفراد والدستور والقوانين والمواطنة وحقوق الإنسان! وبغير ذلك يصبح الحراك الاجتماعى والآخر السياسى شاردين فى تدفقهما بغير ضفاف ولا أهداف، وتكون الفوضى هى مضمون الثورة، ويتصدر الفالصو الواجهات بدلا عن الجوهر الحر الذى لا شائبة فيه!. إننا نستطيع أن نقرأ مسار السكون إذا استطعنا أن نرصد وبدقة شديدة وضع السلطات ودور المؤسسات وفعالية الدستور والقانون ومدى تحقق المواطنة وحقوق الإنسان ليس بمنطق وأسلوب وممارسات الأرزقية إياهم، ولكن بما استقر فى وجدان الإنسانية، وخاصة حق الإنسان فى الأمن والاستقرار والعمل والترفيه، وحق الإنسان الذى يقتل وهو يدافع عن أمن وطنه ضد الإرهاب تحديدا. ونستطيع أن نتوقع حجم الطاقة المكبوتة التى يختزنها المجتمع طالما لا تجد مسارات لتوظيفها وتحويلها إلى منتج يفيد الأمة ككل.. وهنا الفرق كبير بين سخونة تعصف بالجسد الاجتماعى نتيجة الاحتباس الحرارى وطاقة لم تجد منفذا مناسبا، وبين سخونة مصدرها النشاط والحيوية والحركة السليمة!. ثم إننا نستطيع تقدير الأمر إذا رصدنا مدى ثبات القوى المساندة للحكم القائم على مواقفها ومدى اتساعها أو تآكلها.. لمزيد من مقالات أحمد الجمال