عند هزيمة 1967 نشر نخبة من المثقفين ثلاثة نماذج مثالية قدمت بدورها ثلاث استراتيجيات لمواجهة الهزيمة والتأخر العربى.. الأول: نموذج الشيخ الداعى للإصلاح الدينى واستعادة عقلانية الإسلام، وقد مثله جمال الدين الأفغانى، ومحمد عبده.. والثانى: نموذج رجل السياسة الداعى إلى تبنى قيم سياسية حديثة تقوم على الحرية والديمقراطية باعتبارها طريقا للتحرك والتقدم مثل عبدالرحمن الكواكبى، وعلى عبدالرازق.. والثالث: الداعية التقنى المطالب بتبنى قيم العلم فى مواجهة السحر والميتافيزيقيا كما هى الحال عند سلامة موسى. والآن وبعد مرور نصف قرن على هذا التصور، انتهت هذه الاستراتيجيات فى أحيان كثيرة إلى صور مشوهة عن نسختها الأصلية فحلت الدولة الإسلامية، والقاعدة مكان الشيخ الإصلاحى، وبدلا من «الثورى الحداثى» صارت لدينا أنظمة لا تنجح إلا فى إشعال الحروب الأهلية وتحول الليبرالى إلى مثقف مبتهج بالانقلابات ومناصرتها، وقد فشلت هذه الاستراتيجيات جميعا، وهذا عيب فى التطبيق وليس فى الفكرة نفسها، فأصحابها لم يقدموا نموذجا للنجاح، ولم يفسروا تواتر الهزائم، ولم يستطيعوا أن يقولوا لنا متى سنرى القومية الحقيقية والإسلام الحقيقى والاشتراكية الحقيقية، لنضع المسألة على الشكل التالى: لماذا نحن محكومون بالهزيمة الدائمة برغم محاولاتنا التى نجحت فى الوصول إلى السلطة أو التى تعثرت وفشلت فى الوصول إليها؟.. والإجابة: ربما ذلك لأن الاستراتيجيات كلها تشترك فى عيب أساسى يتمثل فى خطاب ينطلق من نص أصلى يقيس الواقع عليه.. هذا النص هو أوروبا لدى الحداثيين، وهو السلف أو التراث لدى الإسلاميين.. والحقيقة أن الخطاب العربى لا ينطلق من موقعه ومشكلاته ولا يحقق استقلاليته الخاصة، بل يستعير نظارة الآخرين لينظر إلى واقعه، مع أن الثياب جاهزة، وكل ما علينا هو أن نفصل أجسامنا لتناسبها، لكن هناك جانبا آخر يستحق النظر وهو أن النصر فى الصورة التى تناسب طموحاتنا وترضينا, خارج قدراتنا الفعلية، وبالتالى فإننا بمعزل عن أى استراتيجية سنتبناها، ومحكومون بالهزيمة مادمنا نطالب بالمستحيل فنطرح على أنفسنا مشكلة لا طاقة لنا بها. وأقول فى هذا الصدد إنه منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين، اعتقدت النخبة الألمانية أنها قادرة على تحقيق النصر فى معركة واحدة ضد روسيا وفرنسا وبريطانيا، فخاضت ألمانيا حربين عالميتين وانهزمت شر هزيمة ودفعت ثمنا فادحا بملايين القتلى وتهجير الألمان من بلادهم وخسارة العديد من الأراضى ثم الاحتلال والتقسيم، برغم وجود أصوات تدعو إلى المقاومة ومواجهة الاحتلال والأمركة والامبريالية.. واختارت ألمانيا خيارا مغايرا هو التسليم بالهزيمة، وما يترتب عليه من قبول خسارتها أراضيها والاحتلال المتعدد لها وقبولها بالأمركة متمثلة فى النظام السياسى الليبرالى وقيمه المفروضة من القوى المحتلة لبناء دولتها الحديثة، ودفعت ثمن الهزيمة، وتخلت عن التصور الذى حملته عن نفسها ودورها فى العالم الذى اعتبرته حقا طبيعيا لها. وبشىء من القياس على الحالة الألمانية، لا يمكن لنا بعد مائة عام من الهزائم ألا ندفع ثمنا لها معتبرينها مجرد خدوش سطحية يمكن مسحها، ولو شئنا كذلك فإن استغراقنا فى الهزيمة يعود إلى ما نعتبره موقعنا فى العالم ودورنا فيه فنستلهم تصورات امبراطورية إسلامية أو عربية أو مواجهة الامبريالية أو منظومة دولة حديثة (علمانية) بالمعايير الفرنسية مثلا، وهو تصور لا يستند إلى واقعنا وإمكاناتنا.. إن الاعتراف بالواقع والبناء عليه ليس اعتراضا بقصد الاستسلام، وإنما بقصد المصالحة مع واقعنا والسعى إلى تحقيق الاستقلال الذاتى الذى حققته ألمانيا على سبيل المثال، بمعنى أن ننظر فى واقعنا دون أن نكون مأسورين لنص نقيس عليه، سواء كان نصا أوروبيا أو تراثيا!. د.عماد إسماعيل