شعب يخرج من سنوات عجاف، أنهكه المجهود الحربي، وتقلصت معدته من المداومة على العدس والفول، وضمرت مصارينه لأنها تتلوى فارغة لم تعرف الامتلاء. وفجأة يعلن السادات الانفتاح الاقتصادي، ويقولها مقتبسا من النص القرآني. لقد جاء العام الذي فيه يغاثُ الناسُ، وفيه يعصرون. انطلق هؤلاء الجوعى والعطاشى منذ منتصف السبعينيات يلهثون وراء المال والسلع والاستهلاك، مندفعين بنفسية حرمان متوارثة منذ مجاعات الفاطميين والمماليك، انطلقوا يستحلون كل شىء تقع عليه أيديهم، يسرقون، يرتشون، يغشون، ينهبون المال العام، يسرقون أعضاء الإنسان، يفعلون كل الموبقات التي تأنف منها الحيوانات، ثم يصلّْون حتى تتورم جباههم، وتبرز علامات نحت الأرض على وجوههم، وكأنهم الشعب الوحيد في العالم الذي يصلي. ومع الصلاة هم أكثر شعوب الأرض يحجون ويعتمرون. تدهمنا الأزمات، وتحل بنا الكوارث، كل منا يلعن الآخر، وكل منا يقتل الآخر، لأننا الشعب الوحيد الذي يعمل معظمه في الحكومة ومؤسساتها، وجميعنا لا نؤدي الأمانة، ونلوم الآخرين. سائق القطار مهمل، وجميعنا مهملون في أعمالنا، والفارق أن سائق القطار يقتل مباشرة، ونحن نقتل أكثر منه بصورة غير مباشرة، أستاذ الجامعة الذي يخون الأمانة وينشغل طوال الوقت بمصالحه لا بتعليم أمة، والصحفي والإعلامي الذي يزيف الكلمة، ويضلل الشعب من أجل حسابات البنك وعقود الشقق والمصايف، والطبيب الذي يهمل مرضاه، أو يسرق أموالهم وأعضاءهم. جميعنا لسنا في موقع أفضل من سائق القطار. وزير الصحة يطمئن على المصابين في حادث قطار الإسكندرية، ثم يتسامر مع مرافقيه بعد أن حقق المطلوب بالتصوير مع مريض، ونسي أن الكاميرا ترافقه، وإذ به يضحك من قلبه مع منافقين أو مرافقين لسيادته، والموقف لا يحتمل الضحك. نحن شعب خصخص كل شىء، وأول ما تم خصخصته هو الدولة ذاتها، ليس بمعنى بيع القطاع العام، وإنما خصخصة الوظيفة العامة، والمال العام، والمرفق العام، الموظف يملك مكتبه ووظيفته، ومصلحته الحكومية، ويبيع خدماتها بالرشاوى والخدمات والمحسوبية، وكل صور الفساد، لأن الوظيفة العامة صارت ملكا خاصا له، ورئيس جامعة يحجز لنفسه موقعا أدنى بكثير يهبط به في سلم الجامعة إلى أولى درجاتها، لأنه مقتنع أنه يملك المنصب، ولابد أن يستخدمه لخدمته قبل أن يتركه، وفراش القطار يملك العربية التي يخدمها، يبيع كل شىء فيها، وأمين الشرطة يملك الشارع والمرور والقسم، وكل المجال العام، والطبيب يملك المستشفى ويسخرها لخدمة مصالحه، جميعنا كهنة في معبد الفساد المصري المقدس، مثقفونا وفنانونا وأساتذة الجامعات، والقضاة ورجال العدل، ورجال الشرطة هم أول من مارس توريث مناصبهم، ومواقعهم لأبنائهم قبل أن يفكر مبارك فى توريث ابنه حكم مصر. ثرنا على مبارك، وحرمنا من توريث ابنه، ولم ننظر في المرآة ونرى قبح أنفسنا وبؤس صورتنا، انظر إلى أسماء الفنانين الشباب والأطباء وأساتذة الجامعات، من لم يأت بابنه جاء بابن أخته. وصف القرآن الكريم مرحلة من تاريخ شعب مصر، نافقوا فرعون وأطاعوه فى كل حماقاته بأنهم قوم سوء فاسقين، والفاسق فى اللغة هو الفأر لأنه يخرج عن الخط المستقيم دائما، يتلوى وينحرف بصورة مستمرة، لا يمكن أن تحدد له مساراً، أو تعرف له طريقاً، ملتو دائما، هذه الصفة تختفى وتظهر فى مجتمعنا، إذا توافرت شروطها تعم وتنتشر، وإذا انعدمت شروطها، وساد الرشد فى الحكم، والعدل في القضاء، والأمن من الظلم، وانضبط إيقاع البشر، وتغيرت أفكارهم، وألقيت أطنان من حبوب الصدق فى النهر -كما فعل فؤاد المهندس فى رائعة يوسف السباعى: أرض النفاق- حينها ينصلح الحال، ويستقيم المجتمع مثلما استقام مع محمد على باشا أوائل القرن التاسع عشر حتى منتصف السبعينيات من القرن الماضى. منذ سبعينيات القرن الماضى انشغل الجميع عن الإنسان، تركوه بلا تعليم ولا تربية ولا ثقافة، وبلا دين تركوه نهباً لغربان الظلام الخارجين من القبور، وللبوم المنتشر في وسائل الإعلام ولجزار اللحم الحرام حين تخلت الدولة عن صناعة السينما، فأصبح الإنسان المصرى بلا تعليم ولا تربية ولا ثقافة، تغلفه قشرة مزيفة من تدين ينتمي لمجتمع آخر، لم يستطع هذا التدين الشكلى أن يتغلغل فى قلب الإنسان المصري، فتحول إلى فاسد ومجرم في جوهره دون أن يدرك ذلك، لأنه يطلق على الرشوة إكرامية، وعلى البلطجة بقشيشا، وعلى الغش والاحتكار شطارة، وعلى الفساد الأكبر قواعد اللعبة، ومع كل ذلك هو شديد التدين الظاهرى، يصلى ويصوم ويحج ويعتمر. ما تحتاجه مصر الآن ثورة ثقافية؛ جوهرها مفاهيم تدين حقيقية تركز على المعاملات والأخلاق قبل العبادات والغيبيات. ثورة ثقافية تعيد الاعتبار للقيم والأخلاق والمثل العليا. تعيد الاعتبار للذوق الرفيع في التعامل وفى الحياة وفى قيم الجمال. ثورة ثقافية تعيد الإنسان المصرى إلى موقع الإنسانية، بعد أن تركه لنصف قرن من الزمان، تعيده ليكون إنساناً يدرك قيمة الإنسان وحرمة الإنسان. ما تحتاجه مصر إعادة بناء الإنسان المصرى بالتعليم والثقافة والخطاب الدينى القيمى الذي يعد الإنسان لحياة طيبة، وليس لموت سريع. تحتاج مصر إلى أن يتحول الاهتمام إلى الإنسان، لأن كل ما يتم بناؤه من مدن ومؤسسات ومرافق وخدمات لن يستمر طويلا مع شبه إنسان؛ يدمر بأنانية كل شىء، ويحول كل شىء عام إلى ملك خاص، ويكفي أن تركب أحدث القطارات إلى الصعيد مرة واحدة لتكتشف أن كل المرافق عندنا تستخدم مرة واحدة ثم تتحول إلى خردة. لمزيد من مقالات د. نصر محمد عارف;