هل تشتعل نيران الفتنة العرقية في المنطقة قبل أن ينقشع دخان الفتن المذهبية والدينية؟ هناك مخاوف من أن يكون إعلان مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق عن إجراء استفتاء بالانفصال عن العراق بداية موجة جديدة من اضطرابات عرقية تمتد من العراق إلى خارجه، خاصة أنه تزامن مع إعلان أكراد سوريا عن إجراء انتخابات لبرلمان وحكم محلي في شمال سوريا، لتكون نواة دولة فيدرالية تحت حماية القوات الأمريكية. عاش أكراد العراق فترة ذهبية استثنائية طوال العقدين الماضيين، فقد استقلوا بالحكم عن بغداد بشكل عملي، فأصبح لديهم حكومة وبرلمان، وارتفع علمهم الخاص منفردا على المقار الرسمية، ويستقبلون الوفود الأجنبية ويتبادلون الزيارات الرسمية مع دول عديدة بدون تدخل أو إطلاع الحكومة المركزية، بل يشاركون في إدارة العراق إلى جانب انفرادهم بحكم كردستان، فالأكراد لهم منصب رئيس جمهورية العراق، إلى جانب حصتهم في البرلمان والمناصب الوزارية في الحكومة المركزية، ويحصلون على حصة من الميزانية العامة للدولة، بينما ينفردون بتوقيع عقود استكشاف وتصدير النفط من كردستان عبر تركيا. فلماذا يضحي أكراد العراق بكل هذه المزايا غير المسبوقة؟ ربما كانت المخاوف من أن تضيع بعض هذه المكاسب بعد أن يسترد العراق عافيته وتقوى شوكته، وتبدأ الحكومة المركزية في فتح الملفات الشائكة حول تصدير البترول ووضع محافظة كركوك والأراضي التي ضمها أكراد العراق بعد طردهم مسلحي داعش، بدعوى أنهم حرروها بدمائهم ولا يمكن الانسحاب منها، وطردهم للعرب والتركمان منها. أما أكراد سوريا فقد كانوا على علاقة أفضل مع الحكومة المركزية، وجاء احتلال داعش والنصرة لشمال سوريا، لتتشكل وحدات الحماية الكردية، التي حصلت على الدعم من الجيش السوري، وكذلك على دعم عسكري وسياسي من روسيا، لكن الولاياتالمتحدة وضعت أقدامها في المناطق الكردية، ووعدت أكراد سوريا بما هو أكثر من الحكم الذاتي، وأقنعتهم بتحويل وحدات الحماية الكردية إلى جيش يسمى «قوات سوريا الديمقراطية»، لتضم مسلحين من الأقليات والعشائر، ويستغل الأكراد الدعم الأمريكي لتوسيع رقعة الأراضي التي يسيطرون عليها، ويمارسون التهجير القسري لغير الأكراد في عدد من المدن والبلدات، وتزداد شهيتهم للمزيد من التوسع وتنفيذ التقسيم. ترى حكومتا بغداد ودمشق أن الأكراد ينفذون مخططا أمريكيا، بعد أن فقدت أمريكا معظم أوراقها بهزيمة الجماعات المسلحة، وأن إطلاق شعار الإستقلال يهدد بتفتيت العراقوسوريا، خاصة أن إسرائيل أصبح لها نفوذ قوي بين الأكراد، وهو ما أثار مخاوف إيران أيضا، التي أعلنت تمسكها بوحدة العراق، ورفض إجراء استفتاء في كردستان العراق. أما الموقف التركي من كردستان العراق فقد تبدل كثيرا، فبعد أن كانت تركيا تقيم مع أكراد العراق علاقات اقتصادية وسياسية وعسكرية قوية بعيدا عن الحكومة المركزية في بغداد، وكان مسعود البرزاني يتم استقباله في تركيا كرئيس دولة، وتعقد معه الاتفاقيات، وتصدر نفط كردستان عبر أراضيها، فقد أعلنت تركيا أن إجراء الاستفتاء خطأ فادح، ورأت فيه خطرا يهدد كيان تركيا، خشية أن يمتد مطلب الاستقلال إلى أكراد تركيا الأكثر عددا من باقي البلدان الثلاثة التي بها أقليات كردية. من الصعب أن يقيم الأكراد دولة قابلة للحياة في حالة عداء مع الدول الأربع، وهي تركياوالعراقوسورياوإيران التي بها أقليات كردية، والتي تحيط بها من كل الجهات، وليس لديها منفذ على البحر، ويكفي أن تغلق الدول الأربع حدودها مع الأكراد لتعاني وتنهار أي دويلة وليدة، حتى لو حظيت بدعم دولي أو إقليمي، لهذا يراهن مسعود البرزاني على كسب ود الرئيس التركي أردوغان، وطمأنته بأن كردستان العراق ستكون أكثر ولاء لتركيا، وأنها ستحارب حزب العمال الكردستاني، وتشاركه في قمع أكراد تركيا، مثلما فعل سابقا، لكن أردوغان يخشى من التقلبات الإقليمية والدولية، خاصة أن البرزاني يحاول كسب ثقة دول الخليج التي دخل أردوغان في نزاع معها حول أزمة قطر، لتتشابك المشكلات الإقليمية والمحلية على أرض كردستان العراق، خصوصا في ظل صراعات مازالت مستعرة في المنطقة، وبدأ فيها اللعب على كل مكامن الفتنة، وما أن هدأت الفتن المذهبية والدينية قليلا حتى ظهرت النعرات القومية، مستعيدة صراعات الفرس والعثمانيين والعرب، لتنفخ فيها النار، في منطقة تعج بهشيم من القوميات والأقليات والعداوات والمخاوف. الموقف الأمريكي الذي عبر عنه وزير الخارجية تيلرسون هو تأجيل الاستفتاء، لأن الوقت ليس مناسبا، لكن لا يمكن تصور أن يمضي البرزاني في خطوة الاستفتاء دون ضوء أخضر أمريكي، والتوقيت في نظر البرزاني مثالي، لأن الولاياتالمتحدة بحاجة إلى الأكراد في العراقوسوريا بعد أن فقدت ورقة الجماعات المسلحة، ولم يعد لها موطئ قدم إلا في المناطق الكردية، خصوصا بعد انهيار الجماعات المسلحة الموالية لها في جنوبسوريا، وسيطرة القوات السورية على المعابر مع الأردن، لكن إصرار البرزاني على إجراء الاستفتاء يمكن أن يكون مقامرة تنسف الكثير من مكاسب الأكراد، وتحول إقليم كردستان إلى ساحة صراع إقليمي ودولي، وقد تطبق القوات العراقية على الإقليم بدعم تركي إيراني حتى لا يتحول الإقليم إلى شوكة في ظهر الدول المحيطة. لهذا من المرجح أن يكتفي البرزاني بالتلويح بورقة الاستفتاء على الاستقلال، ليحقق بعض المكاسب الإضافية، لكن مضيه قدما في إجراء الاستفتاء قد يجر عليه عاصفة ليس بمقدوره الصمود في وجهها. لمزيد من مقالات مصطفى السعيد