كُتِبت مقالات عديدة حول سلبيات إقامة أكشاك للفتوى فى محطات المترو، لكننا فى مصر ننسى سريعا خصوصا مع تلاحق الأحداث من حولنا ، وبالتالى فمن المهم مواصلة الكتابة فى هذا الموضوع حتى إنهاء التجربة بحلول عيد الأضحى المبارك كما تعهد وزير النقل رغم أننا لا نفهم سببا منطقيا لهذا التوقيت الغريب، فَلَو كان المقصود بهذا الموعد هو الانتظار حتى تقديم الفتاوى الخاصة بالأضاحى فهذا أمر يحتمل إنجازه اليوم أو غدا أو بعد غد وغير مقيد بزمن محدد، ولو كان المراد إسداء الفتاوى الخاصة بشعائر الحج فإن أول أفواج حج الجمعيات سيغادر إلى الأراضى المقدسة يوم 12 أغسطس المقبل حسب بيانات وزارة التضامن ثم إن أرض الحرمين هى المنبع لهذا النوع من الفتاوى، عموما فإن ما سبق ليس سوى وجه واحد من وجوه مشكلة اختلقناها دون داعٍ وندور حاليا حول أنفسنا بحثا عن حل لها. يُحسب للدكتورة درية شرف الدين الإعلامية المرموقة ووزيرة الإعلام السابقة أنها أول من لفت النظر إلى محاولة تديين مرفق عام يستخدمه المصريون كافة بغض النظر عن دينهم، وقد كتبت الدكتورة درية حول هذا الموضوع أربع مقالات أولاها فى 30 مايو الماضى أى منذ أن كان إنشاء إذاعة دينية فى مترو الأنفاق مجرد فكرة كما أشارت لذلك، وواصلت الكتابة بعد أن تحولت الفكرة إلى واقع ملموس، ثم بعد أن تعززت الفكرة بإقامة أكشاك للفتوى ، وأخيرا بعد أن تحول من ينتقد إقامة تلك الأكشاك إلى شخص يعمل «ضد الدين والدولة». من المهم جدا أن نتتبع تطور الموضوع عبر مقالات دكتورة درية شرف الدين لأنها تعطينا فكرة ليس فقط عن تلاحق إجراءات تديين المترو لكن أيضا عن السرعة التى تتم بها تلك الإجراءات. يخطئ من يتعامل مع أكشاك الفتوى فى محطات المترو باعتبارها تنطوى على تمييز ضد المواطنين المسيحيين وحدهم فالواقع أن فكرة تلك الأكشاك مبنية على أساس مجموعة مركبة من معايير التمييز ، فهناك التمييز بين مستخدمى المترو ومستخدمى وسائل النقل الأخرى فإذا صدقنا أن تلك الأكشاك تلبى طلبا جماهيريا على الفتوى فلماذا نختص ركاب المترو دون سواهم بهذه الخدمة ؟ وهناك تمييز بين سكان العاصمة وسكّان المحافظات الأخرى التى لا يسير فيها المترو فهل نعوض أهالى تلك المحافظات بأكشاك فى محطات السكك الحديدية ؟. لو أن مفوضية مكافحة التمييز قد نشأت إعمالا لنص المادة ال53 من الدستور التى تقول «تلتزم الدولة باتخاذ التدابير اللازمة للقضاء على كل أشكال التمييز ، وينظم القانون إنشاء مفوضية مستقلة لهذا الغرض» لكان من حق أى مواطن لا تتاح له خدمة الفتوى فى المترو أن يتقدم للمفوضية بشكوى ضد وزير النقل و مدير مترو الأنفاق لانتهاكهما الدستور وتمييزهما الصريح بين المواطنين المصريين . أكشاك الفتوى ليست فكرة تمييزية فقط لكنها أيضا فكرة مراوغة لأنها تقوم على أساس تقديم خدمة دينية ميسرة لمواجهة فتاوى المتشددين، ولى على هذا التصور عدة ملاحظات. الأولى أن هناك منافذ شديدة السهولة والإتاحة للجادين فى طلب الفتوى وأول هذه المنافذ الخدمة التليفونية، ومن هنا عندما يقول دكتور محيى الدين عفيفى أمين عام مجمع البحوث الإسلامية إن أكشاك الفتوى «جاءت من باب التيسير على المواطن المهموم الذى ليس لديه وقت للذهاب للجنة الفتوى بالجامع الأزهر ودار الإفتاء» - نرد عليه بالقول إن المواطن المهموم لا يحتاج إلى الذهاب لأى مكان وكل ما عليه هو أن يتصل بخدمة الفتاوى الهاتفية المجانية التى تقدمها دار الإفتاء. الملاحظة الثانية إذا صح ماقيل عن أن غالبية الفتاوى التى قدمتها أكشاك المترو منذ نشأتها تدور حول مسائل الزواج والطلاق والمعاملات الاقتصادية فإن ذلك إنما ينفى عن موضوعاتها طابع العجلة ، فهذه المسائل بطبيعتها مسائل ممتدة وكبيرة ولابد أن من يحتاج رأى الدين فيها سيسأل أكثر من مصدر ولن يكتفى بتلقى فتوى سريعة بشأنها فى أثناء انتظار المترو أو قبل مغادرة المحطة. الملاحظة الثالثة تتعلق بنوعية الخدمة التى تقدمها أكشاك الفتوى فنحن نعلم أن عددا من خطباء المساجد التابعة لوزارة الأوقاف لا تخلو أفكارهم من التطرف فما الذى يضمن أن يكون جميع موظفى تلك الأكشاك محصنين ضد التطرف ولا ينشرون الفتنة بدلا من تقديم الفتوي؟ الملاحظة الرابعة والأخيرة أختصها بمساحة خاصة لأنها تتعلق باختزال مواجهة التطرف الدينى فى إصدار الفتاوى الدينية المعتدلة - وهذا جزء من آليات المواجهة لكنه بالتأكيد ليس هو الآلية الوحيدة، فالثقافة بمعناها الواسع الذى يشمل الأدب والفن التشكيلى والموسيقى والدراما والغناء آلية شديدة الأهمية فى محاربة التطرف ولنا فى تجربة دكتور جابر جاد نصار فى نطاق جامعة القاهرة خير شاهد ومثال. إن تجديد الخطاب الدينى يتحقق بانفتاحه على مختلف أنواع الإبداع ورفعه الحرج عن تذوق مواطن الجمال فى اللوحات والتماثيل والتراجم والمسرحيات والمقطوعات الموسيقية فتلك الأدوات بقدر نعومتها لا تخلو من قوة بل أزيد وأقول إنها الأقوى أثرا فى التغيير. بدأتُ المقال باتفاقى التام مع مقالات دكتورة درية شرف الدين فى نقد تجربة أكشاك الفتوى وأختم باختلافى مع ما ذهبت إليه فى مقالها الأخير يوم الأربعاء الماضى عندما قالت إن «هناك حالة من اللامبالاة واللااستجابة واللاتقدير» فى التعامل مع ردود الفعل الواسعة الرافضة لتجربة أكشاك الفتوى، فأن يتحرك وزير النقل ويعد بإزالة تلك الأكشاك بعد عيد الأضحى فهذا تطور ما كان ليحدث لولا تحرك المجتمع المدنى ضد التجربة التى تنتهك مبدأ المواطنة وقيمة الفتوى فى آن واحد، صحيح ما كنا نتمنى الانتظار حتى عيد الأضحى لكن صبرا جميلا فإن غدا لناظره قريب. لمزيد من مقالات د. نيفين مسعد