العام 1967 علامة فارقة في فن السرد؛ لأكثر من سبب. فعلى مستوى فن الرواية عالميا صدرت فيه«مائة عام من العزلة», الرواية التى أسست لمدرسة امتدت من أمريكا اللاتينية لتؤثر بأشكال ودرجات مختلفة على الكتابة السردية فى العالم كله: مدرسة الواقعية السحرية, التى هى باختصار مزج العجائبى بالحدث العادى الموصوف بأسلوب واقعى سيطر على فن الرواية, الذى هو فن حديث هيمنت عليه المدرسة الواقعية، باستثناءات قليلة لعل أبرزها كتابات المبدع الأيرلندى جيمس جويس وأشهرها رواية «عوليس» (1922). أما العجائبية فى السرد فهى أقدم بكثير من حيث الجذور من الواقعية؛ لأنها ابنة الحدوتة والأسطورة والأمثولة وقصص الحيوان. وما فعله ماركيز فى «مائة عام من العزلة» هو تأسيس وشرعنة المزج بين واقعية فن الرواية المولود حديثاً وبين عجائبية جدته: الحدوتة. أما على المستوى المحلى، فقد كانت نكسة 1967 هى الرحم الأم لميلاد مرحلة جديدة من تطور فن الكتابة لدى نجيب محفوظ. فقد أدت صدمة الهزيمة المفاجئة لمشروع مصر الوطنى والقومى بل والعالمى إلى سيطرة الرؤية العبثية ومنهج اللامعقول ولو مؤقتًا على كتابات محفوظ, وبالتحديد قصصه القصيرة، ولجوئه للمرة الأولى إلى كتابة مسرحيات قصيرة من فصل واحد تأثر فيها بمسرح العبث. ففى مجموعاته القصصية «تحت المظلة (1969)، و«شهر العسل» (1971)، و«الجريمة» (1973) طائفة من القصص والمسرحيات القصيرة عكست هول الصدمة وسيطر على معظمها جو الكابوس؛ حيث تجد الشخصيات نفسها فى مأزق يصعب أو يستحيل الخروج منه، وكثيرا ما تستيقظ من نومها لتجد نفسها متورطة فى كابوس صحو مرعب. ولهذا يسيطر منطق وتقنية الحلم فنيا على هذه الكتابات، وتفسح الواقعية المجال للعجائبى والكابوسى. ففى قصة «تحت المظلة», على سبيل المثال, تحدث أهوال فى الشارع تحت مطر ينهال مبرقا ومرعدا من سحب سوداء, أمام متفرجين لجأوا إلى حمى مظلة مكتفين بالتعليق وتساؤلات الدهشة إزاء مشاهد عنف وعرى وجنس صريح ودم يسيل وعجائب تحدث أمامهم و أمام الشرطى الواقف فى مدخل عمارة يتفرج هو الآخر. موقف مشابه نطالعه فى القصة الثانية بنفس المجموعة، وهى بعنوان «النوم», حيث تُقتل محبوبة أمام عاشقها النائم فى حديقة, وتستنجد به فى أثناء الفتك بها وهو غائب فى النوم لايسمع. وفى «موقف وداع» بنفس المجموعة يفيق صاحبان من غيبوبة ليجدا نفسهما عاريين تماما فى صحراء مبهمة، بلا ملابس وبلا ذاكرة بعد أن خدرهما أشقياء وجردوهما من كل شىء حتى الهوية والاسم. وفى مجموعة «الجريمة» قصة مشابهة بعنوان «العرى والغضب»، لكن الفخ فى هذه المرة سعى إليه بطل القصة بقدميه وهو صاح ومدرك لما يفعل؛ إلا أن ضعفه وغفلته جعلاه فريسة سهلة لامرأة جميلة استدرجته بإيعاز من أعدائه إلى بيت أحكمت إغلاقه وهى تهرب منه حاملة ملابس المفتون وأوراقه, وتركته فى انتظار قدوم الأعداء بعد أن فوتت عليه موعدا حاسماً فى قضيته المرفوعة ضدهم. وفى قصة «شهر العسل» الأولى فى مجموعة تحمل نفس الاسم كابوس صحو آخر، حيث يفتح العروسان باب الشقة الجميلة التى أعداها لحبهما ومستقبل أسرتهما الوليدة, قادمين منتشيين من حفل عرسهما, ليجداها قد احتلها مجموعة من الأجلاف. وبعد الصدمة الأولى، يقرران الدفاع عن عشهما ، ويستغلان الصراعات الداخلية بين هؤلاء الوحوش فينتزعان عشهما فى النهاية، ولكن بعد أن تهشم تماما كل ما فيه؛ كل ما أعداه لاحتضان مستقبل سعيد. إلا أن الزوج الشاب يقول فى النهاية: «لم يضع شىء لا يمكن تعويضه»، معبرا عن موقف مصر كلها فى مرحلة حرب الاستنزاف التى كتب محفوظ بوحى منها قصص مرحلة اللامعقول فى مسيرته الغنية بالإبداع المتنوع، الذى يمكن وصفه ببعض التعميم بأنه انتقال بطىء من محاكاة الحياة إلى إعادة صياغتها. فبعد انتهاء مرحلة ما بعد صدمة الهزيمة التى شهدت قصص العبث والكابوس، شهدت السبعينيات والثمانينيات عملين غلبت على أولهما (الحرافيش 1977) الرمزية الملحمية، واتسم ثانيهما (ليالى ألف ليلة 1982) بعجائبية الحدوتة الشعبية. وهما أهم درتين فى تلك المرحلة, وصدرتا وسط أعمال متعددة الأشكال والمناحى تنوعت ما بين المحاكاة الواقعية ومابين إعادة صياغة الواقع، حتى انتهى كاتبنا المطوِّر فى التسعينيات إلى التجريد والتلخيص والتكثيف, لتعكس مسيرته الإبداعية تاريخ الفن كله. لمزيد من مقالات بهاء جاهين;