نشرة «المصري اليوم» الصباحية.. الأرصاد تعلن موعد انكسار الموجة الحارة وأحمد مجاهد يرد على اتهامات كهربا ب«تزوير عقده»    ارتفاع جديد.. أسعار الفراخ والبيض في الشرقية اليوم الخميس 25 إبريل 2024    الشعب جاب آخره، المنوفية تنضم اليوم لحملة مقاطعة الأسماك بعد ارتفاع أسعارها    ب86 ألف جنيه.. أرخص 3 سيارات في مصر بعد انخفاض الأسعار    استشهاد فلسطيني برصاص قوات الاحتلال خلال اقتحام مدينة رام الله    رئيس موريتانيا يعلن ترشحه لولاية رئاسية ثانية    شرطة لوس أنجلوس تعتقل عددا من طلاب جامعة جنوب كاليفورنيا المؤيدين لفلسطين    كلوب يعتذر لجماهير ليفربول وهذا ما قاله عن فرص الفوز بالدوري الإنجليزي    ميدو يطالب بالتصدي لتزوير أعمار لاعبي قطاع الناشئين    حزب المصريين: البطولة العربية للفروسية تكشف حجم تطور المنظومة الرياضية العسكرية في عهد السيسي    المنيا.. السيطرة على حريق بمخزن أجهزة كهربائية بملوى دون خسائر في الأرواح    زوج بدرية طلبة لصدى البلد: ربيت بناتي على القديم..والفنانة: اديني في الشعبي    نقل الفنان الكويتي شعبان عباس إلى المستشفى بعد تعرضه لوعكة صحية مفاجئة (فيديو)    الفندق عاوز يقولكم حاجة.. أبرز لقطات الحلقة الثانية من مسلسل البيت بيتي الجزء الثاني    عن تشابه «العتاولة» و«بدون سابق إنذار».. منة تيسير: التناول والأحداث تختلف (فيديو)    الرشفة ب3500 ريال وتصنيفاته ما بتخيبش، قصة شاب سعودي في مهنة تذوق القهوة    إصابة 9 أشخاص في حريق منزل بأسيوط    أبو رجيلة: فوجئت بتكريم الأهلي.. ومتفائل بقدرة الزمالك على تخطي عقبة دريمز    الاحتفال بأعياد تحرير سيناء.. نهضة في قطاع التعليم بجنوب سيناء    لتفانيه في العمل.. تكريم مأمور مركز سمالوط بالمنيا    الحماية المدنية تسيطر على حريق بمخزن أجهزة كهربائية بالمنيا.. صور    يحيى السنوار يشغل المتظاهرين أمام منزل نتنياهو.. ماذا حدث؟    طلاب مدرسة أمريكية يتهمون الإدارة بفرض رقابة على الأنشطة المؤيدة للفلسطينيين    تعديل موعد مباراة الزمالك وشبيبة سكيكدة الجزائري في بطولة أفريقيا لكرة اليد    توقعات ميتا المخيبة للآمال تضغط على سعر أسهمها    مستشار الأمن القومي الأمريكي: روسيا تطور قمرا صناعيا يحمل جهازا نوويا    بعد الصعود للمحترفين.. شمس المنصورة تشرق من جديد    عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير.. أسعار الذهب اليوم الخميس 25 إبريل 2024 بالصاغة    صندوق التنمية الحضرية يعلن بيع 27 محلا تجاريا في مزاد علني    الليلة.. أدهم سليمان يُحيي حفل جديد بساقية الصاوي    هل يجوز قضاء صلاة الفجر مع الظهر؟.. «الإفتاء» تحسم الجدل    أحمد موسى: مطار العريش أصبح قبلة للعالم وجاهز لاستقبال جميع الوفود    حصول 5 وحدات طب أسرة جديدة على اعتماد «GAHAR» (تفاصيل)    رئيس قسم الطب النفسي بجامعة الأزهر: تخصصنا يحافظ على الشخص في وضعه الطبيعي    رئيس «الطب النفسي» بجامعة الإسكندرية: المريض يضع شروطا قبل بدء العلاج    بعد نوى البلح.. توجهات أمريكية لإنتاج القهوة من بذور الجوافة    محافظ شمال سيناء: منظومة الطرق في الشيخ زويد تشهد طفرة حقيقية    توجيهات الرئيس.. محافظ شمال سيناء: أولوية الإقامة في رفح الجديدة لأهالي المدينة    مش بيصرف عليه ورفض يعالجه.. محامي طليقة مطرب مهرجانات شهير يكشف مفاجأة    تيك توك تتعهد بالطعن في قانون أمريكي يُهدد بحظرها    كيف أعرف من يحسدني؟.. الحاسد له 3 علامات وعليه 5 عقوبات دنيوية    دعاء في جوف الليل: اللهم أخرجنا من الظلمات إلى النور واهدنا سواء السبيل    بعد اختناق أطفال بحمام السباحة.. التحفظ على 4 مسؤولين بنادي الترسانة    "مربوط بحبل في جنش المروحة".. عامل ينهي حياته في منطقة أوسيم    اسكواش - ثلاثي مصري جديد إلى نصف نهائي الجونة الدولية    محافظ شمال سيناء: الانتهاء من صرف التعويضات لأهالي الشيخ زويد بنسبة 85%    الهلال الأحمر: تم الحفاظ على الميزانية الخاصة للطائرات التى تقل المساعدات لغزة    «زى النهارده».. عيد تحرير سيناء 25 إبريل 1982    غادة البدوي: تحرير سيناء يمثل نموذجًا حقيقيًا للشجاعة والتضحية والتفاني في سبيل الوطن    ميدو: لاعبو الزمالك تسببوا في أزمة لمجلس الإدارة.. والجماهير لن ترحمهم    الزكاة على أموال وثائق التأمين.. الإفتاء توضح أحكامها ومتى تجب    تأجيل بيع محطتي سيمنز .. البنوك الألمانية" أو أزمة الغاز الطبيعي وراء وقف الصفقة ؟    من أرض الفيروز.. رسالة وزير العمل بمناسبة ذكرى تحرير سيناء    إصابة أم وأطفالها الثلاثة في انفجار أسطوانة غاز ب الدقهلية    فريد زهران: نسعى لوضع الكتاب المصري في مكانة أفضل بكثير |فيديو    حظك اليوم برج الميزان الخميس 25-4-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    صور.. الطرق الصوفية تحتفل برجبية السيد البدوي بطنطا    بالفيديو.. أمين الفتوى: موجات الحر من تنفيس نار جهنم على الدنيا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الباغ
نشر في الأهرام اليومي يوم 28 - 07 - 2017

«الباغ» كلمة فارسية الأصل، تعنى البستان الكبير الذى يحيط بالبيت، وهو عنوان الرواية الأخيرة التى أصدرتها الكاتبة العُمانية «بشرى خلفان» العام الماضى، ونفدت طبعتها خلال شهور، فأعيد طبعها هذا العام. و«بشرى خلفان» كاتبة تعمل بالصحافة العُمانية،
ولها نشاط ملحوظ فى الكتابة الإبداعية والصحفية، كما سبق أن أصدرت أربع مجموعات قصصية؛ هى: «رفرفة»، و»غبار»، و«صائد الفراشات الحزين»، و«حبيب رمان» (الصادرة عن مؤسسة الانتشار العربى بلبنان). أما «الباغ»، فهى العمل الإبداعي الذي تدخل به «بشرى خلفان» عالم الرواية بقوة، وتؤكد به مع قريناتها – من أمثال: بدرية الشحى وجوخة الحارثى، وهدى الجهورى، وبشرى الوهيبى- دخول عُمان الزمن الإبداعى للرواية العربية فى صعوده وهيمنته؛ فما كنا نسمع من قبل عن الأدب العمانى المعاصر سوى أنه أدب شعر بالدرجة الأولى، يتنافس شعراؤه فى تيارات الشعر المعاصر والحداثى ليؤكدوا الحضور الإبداعى لعُمان المعاصرة فى الفضاء الشعرى العربى الذى يمتد من المحيط إلى الخليج. ولكن ها هى «بشرى خلفان» في رواية «الباغ» تؤكد أن الأدب العُمانى يفتح أفقًا موازيًا من آفاق الإبداع الذى يقترن بزمن الرواية الصاعد والذى لم تنكسر مؤشراته المتنامية بعد.
ورواية «الباغ» بوجه عام رواية يمكن أن نصفها بأنها أقرب إلى الراوية التاريخية، فالرواية تبدأ من الأربعينيات ولا تتوقف إلا فى زمننا الحاضر. وتقصُّ من خلال سردياتها المتتابعة حكاية جيلين؛ الجيل الأول: هو جيل الأخ «راشد» والأخت «ريا»، وهما اللذان اضطرا إلى مغادرة وطنهما الأول؛ نتيجة الظلم الذى وقع عليهما من العم وأبنائه بعد موت الأب، خصوصًا بعد أن قَوِيت سلطة العم وطمع فى تزويج ابنة أخيه «ريا» بأحد أبنائه، ضاربًا عرض الحائط بوصية أبيها (أخيه)، الأمر الذى دفع به إلى الكيد بابن أخيه «راشد»؛ مما أدى إلى سجنه عند الوالى بتهمة ماسّة بالشرف، وهى تهمة باطلة أراد بها العم الظالم النَّيل من سمعة ابن أخيه. ولولا تدخل أخوال الابن، وهم مقاتلون أشدّاء، وإخراجهم له من سجن الوالى، لضاع مستقبل الابن الذى يخرج من السجن غاضبًا وعازمًا على مفارقة موطنه الأصلى هاتفًا فى حسم: «بلاد ما ترد الظلم عن أولادها ما نبات فيها ليلة». ويمضى مع أخته فى حزم وعزم حتى يبتعد تمامًا عن حدود الأرض التى تضم العم الظالم وأبناءه الذين لا يقلون عنه ظلمًا. وأولى الجمل التى تقابلنا فى الرواية هى الجملة نفسها التى تختتم بها، وهى الجملة التى يقولها «راشد» لأخته «ريا»، والوادى سيل جارف: «نخوض، وينوصل رباعة.. ييشيلنا الوادى رباعة»، وهى جملة بالعامية العُمانية وتعنى: إما أن نعيش معًا أو نموت معًا. ولم تُجِب الأخت على هذه الجملة بشيء أكثر من أنها لفّت ذراعيها النحيلتين حول جسده بقوة، عندما أردفها وراءه وربط حبلًا من الليف حول خاصرتيهما فصارا كالجسد الواحد، ودلف بالناقة ماء السيل، والماء يرتفع فيغطى قوائم الناقة، ويلامس قدم «ريا» فترفعهما، وناقة راشد تمضى غير مكترثة، ولا غرو فهى ناقة لا تقل عنه عنادًا. وتتردد هذه الجملة فى الفضاء الروائى كأنها اللحن الاستهلالى الذى سرعان ما يعود إلى مسامعنا مذكرًا إيانا بالرحلة كلها، فآخر صوت تسمعه «ريا» والرواية تختتم تدفقها السردى هو صوت «راشد» يأتيها من بعيد: «ينوصل رباعة.. ييشيلنا الوادى رباعة». ولكن الحياة تفتح أبوابها للهاربَين من الظلم، المتمردَين عليه فى الوقت نفسه، ويمضيان فى مسيرة حياة صعبة لم تَخْلُ من الظلم فى أى زمن من أزمانه، كما لو كانت الرواية نفسها تبدأ وتنتهى من مقاومة الظلم لتعود كالدائرة التى تختتم محيطها بوصل النهاية بالبداية كى تلتقى البداية والنهاية فى دلالة متكررة الرجع، هى الدلالة التى يواجه فيها المقموعون القامعين، لكن بما لا يقضى قطّ على ثنائية القامع والمقموع التى تبدو كما لو كانت ثنائية قدرية. وهذا هو ما تؤكده مسيرة «راشد» الذي يصحب أخته «ريا» إلى أرض غريبة فيجد عملًا في الميناء، ويواجه الأشرار من منافسيه إلى أن تتحسن أحواله، ويستبدل أبًا جديدًا بأب قديم، ويعثر على صاحب له اسمه «على»، يعلمه القراءة والكتابة. وتمضي به الحياة، ويوافق على زواج أخته «ريا» من صاحبه «على»، وينضم إلى حرس الوالى، ومنه إلى عسكر السلطان.. وشيئًا فشيئًا يصبح أداة من أدوات السلطة؛ ومن ثَم يأخذ صفَّ القامعين بعد أن كان في صف المقموعين.
أما الجيل الثاني فهو الجيل الذي تنجبه «ريا» أخت «راشد» التي قبلت المسير معه، تاركة أرضها احتجاجًا على القمع وفرارًا منه. ولكنها تتزوج صديق أخيها في الموطن الجديد، وتنجب منه «زاهر» الذي يزهر في حياتها كالأمل الحلو، ويكبر «زاهر»، ويعرف الحب مع ابنة المرأة التى أصبحت صديقة لأمه، ويرفرف الحب كالطيور الصداحة في الباغ (البستان) تحت ظلال شجرة الرمان، ولكن كان لا بد لزاهر أن يفارق عالم الباغ، تاركًا عمان إلى الكويت، كى يكمل تعليمه. وفى الكويت تنفتح له عوالم جديدة، تجعله أكثر إدراكًا للواقع العربي الأوسع، وتجذبه التجمعات القومية، وتحولات الحياة في الخليج، وتصدمه هزيمة 1967، ولكنها لا تكسره، فقد أدرك أن خلاصه في أن يمضي في الطريق الذي مضى فيه «إرنستو تشي جيفارا»، ولكنه لا يكمل الطريق؛ فلا إمكان للثورة الجذرية فى عالمه القديم، والمقموعون القدامى أصبحوا قامعين، وهى أمثولة مربكة، تتمثل في خاله «راشد» الذى تبدأ به الرواية مقموعًا، ولكنها تتحول معه وبه، كى يصبح قامعًا أو ضابطًا كبيرًا من الذين أسهموا فى القضاء على أشباه جيفارا، الذين حلموا بأن يجعلوا من ظفار عالمًا عادلًا لا يعرف التمييز أو الفوارق الطبقية. ويتحول حلم زاهر إلى كابوس، وتتكسر أجنحة ثوار ظفار على صخور واقع خشن، يأبى التحوُّل. وسرعان ما يقود الكابوس إلى الموت، وذلك فى مسار مقدور على الفصول التى يمضى السرد فيها عبر مسار يشبه الدائرة. يعود إلى النقطة نفسها التى بدأ منها؛ حيث تنغلق الدائرة، وتنتهى الرواية بالجملة نفسها التى بدأت منها، ولكن بما يترك وعى القارئ مثقلًا بهموم النتيجة التى تبدو كأنها تسترجع من الذاكرة سطور أمل دنقل:
لا تحلموا بعالم سعيد
فخلف كلّ قيصر يموت: قيصر جديد!
وخلف كلّ ثائر يموت: أحزان بلا جدوى..
ودمعة سدى!!
ولذلك يبقى السؤال ملحًّا على ذهن قارئ هذه الرواية بعد أن يفرغ منها تاركًا مشهد «ريا» وهى تسمع خبر موت ابنها على يد أخيها الذى شاركته فى التمرد على الظلم، فتحول من قرين أو شريك إلى نقيض أو عدو. فتنقلب الثنائية التى جمعتها بالأخ الذى صار فى منزلة الأب والابن والأجداد، إلى الأخ الذى يقف فى خدمة الذين قتلوا ابنها وقاموا بتعذيبه فى قلعة «الجلالى» المخيفة التى يخايلنا السرد بها أكثر من مرة، فى نوع من الاستباق أو الإرهاص بالنهاية منذ البداية.
ويبقى السؤال: من البطل الأساسى فى هذه الرواية؛ هل هو «راشد» الذى قرر أن يصحب أخته معه تاركًا أرض الظلم؛ لأنه حر لا يطيق الظلم؟ أم هى «ريا» التى قررت أن تمضى مع أخيها فرارًا من الظلم إلى النهاية الحتمية؟ أم ما يترتب على فرارهما معًا من زوج أو ابن؟ الحق أن البطل الأساسى الذى يفرض حضوره الطاغى على هذه الرواية هو «ريا» التى تكاد تتحول إلى موازاة رمزية للمرأة العُمانية التى قامت بأدوار متعددة عبر تاريخ عُمان الحديث؛ من الأربعينيات إلى اليوم، وذلك عبر مرحلتين؛ تنتهى الأولى فى عمان بعد أن تتزوج «ريا» من «على» صديق أخيها «راشد» وتنجب منه ابنها «زاهر» الذى ينمو فى عُمان ويتلقى العلم فى مدارسها، إلى أن يفرض عليه طلب العلم أن يفارق عُمان إلى الكويت طلبًا للمزيد من العلم، ولكن بعد أن تكون قد نبتت في قلبه الغض بذرة الحب التى ظلت تنمو فى قلبه مخلفة مشاعر وردية بهيجة، فتبدو «مزنة» – حبيبة القلب- كالرمانة الناضجة التى تَعِد بتحقيق الأحلام البهيجة، ولكن رحلة الكويت للتعلم تأتى بنوع من الانقطاع المعرفى الذى يتحول معه زاهر من طفل برىء إلى شاب ثورى متمرد يعرف معانى الظلم ويقرأ فى فلسفات الثائرين على الاستعمار فى كل مكان، ومن ثم يفتح آفاق وعيه للثورة القومية التى امتدت عبر العالم العربى كله منذ الخمسينيات إلى أن انكسرت انكسارها المدوّى فى هزيمة 1967، ولكن بعد أن أصبح زاهر رجلًا آخر يعرف معانى الظلم والعدل ويعرف الأبعاد القومية لعدالة قضيته، وينتسب إلى كل الثوار فى العالم كله، عاقدًا العزم على أن يكون صورة أخرى من جيفارا ورفاقه، حالمًا بمستقبل آخر لعمان، مستقبل يحقق العدل للجميع، والخير للكل، وذلك فى موازاة تغير الوعى فى عمان نفسها بعد أن أصبح الجميع يتكلمون عن عبدالناصر وشكرى القوتلى والتأمين والوحدة العربية وفلسطين والدستور والثورة، يتناقشون ويتجادلون ويثورون، ويغضبون، ثم يعودون ليضحكوا ملأى بالأمل وبالأحلام التى أصبحت قريبة التحقق. ولكن عندما تأتى الهزيمة تصيب الجميع باليأس وفقدان الأمل فى الخلاص. ولكن يخرج «زاهر» من وطأة اليأس بإدراك أنه لا بد من الثورة التى تقتلع كل جذور الفساد؛ سواء فساد الاستعمار الإنجليزى الذى يفرض أعوانه ويتعامل مع الأرض باعتبارها مزرعة أو منجمًا للثروة التى ينهبها، أو فساد الحكام الذين أصبحوا صورة موازية للاستعمار أو أعوانا له. وعندما تصبح الأسئلة أكثر من الإجابات تأتى الإجابة المهمة وهى أن الثورة التى لا تبقى ولا تذر هى طريق الخلاص. وتبهت هزيمة عبدالناصر فى الذاكرة لتسطع محلَّها ضرورة التمرُّد على الضرورة التى لا بد أن يستبدل بها العقل الثائر بالخنوع التمرد وبالعبودية الحرية. وهكذا يخرج «زاهر» من جحيم الواقع المستحيل إلى فردوس المثال الممكن، وينضم إلى التنظيم الجديد الذى دُشِّن لدعم «جبهة تحرير عُمان والخليج العربى»، ويذهب مع الثائرين إلى «ظفار» لكى يحققوا بداية الفردوس الأرضى فيها، وذلك بعد أن قرأوا ما كتبه ماركس وإنجلز، ودرسوا البيان الشيوعى وتعلموا صراع الطبقات، ولم يجدوا الإجابات المرضية كلها، ولكنهم على الأقل عثروا على البدايات التى تدل على الطريق الذى تستعيد به الأرض كرامتها، فيحرِّر القدس ويبعث عُمان من تحت غبار التاريخ.
هكذا أصبح «زاهر» عضوًا فى حركة الكفاح المسلح فى «ظفار»، وتعلم حرب العصابات؛ فسافر إلى بيروت 1990 وتدرب مع المناضلين الفلسطينين على حمل السلاح وحرب العصابات، وبعد ثلاثة أشهر غادر بيروت جوًّا إلى اليمن، ومن اليمن التحق بالثوار فى جبال ظفار، حاملًا الشارة الحمراء وكتاب ماو تسى تونج. ويأسف والد «زاهر» أيما أسف عندما يعرف ما انتهى إليه حال ابنه، خصوصًا بعد أن أخبره خاله «راشد» - بوصفه أحد كبار ضباط السلطان- بأن اسم «زاهر» من الأسماء التى رصدتها المخابرات للثوار الذين يقاتلون فى «ظفار». وحقًّا كان زاهر يصعد مع الثوار، يعرف إلى أين هو ذاهب، يرى النصر قاب قوسين أو أدنى، يرى الفرح الذى سيملأ سماء مسقط، وعين أمه، وقلب حبيبته. ويحلم بأنه عندما سيعود، وتتحرر البلاد من الظلم والرجعية والتخلف، سينشؤون المدارس، سيكون هناك مستشفيات، ستشق الطرق، سيتساوى الناس كلهم، لن يكون هناك سادة أو عبيد.. ستكون عُمان حرة ومتحررة من الصراعات التى تغذيها الإمبريالية لتبقى الشعوب فى حالة من التبعية والذل والهوان. ولذلك كان «زاهر»، يرى عين أمه ويبتسم لها، كما «كان يسمع ضحكة «مزنة»، فيزداد حماسه فى كل خطوة، ليردد في نفسه: سننتصر؛ فالأرض معنا، والشعب معنا، ولا تغيير حقيقى دون دم».
هكذا مضت حياة «زاهر» فى «ظفار» متضوعة بالحلم كالزهرة البريئة التى اشتق منها اسمه، حالمًا بالغد الأكمل وبالحياة الحرة والعدل الاجتماعى والشعب السعيد، وكان عليه – بسبب ذلك- أن يدرك أنه منذ أن انضم إلى الثوار ما عاد على الجانب نفسه مع أهله، وأنه أصبح وإياهم عدوَّين، لا لقاء بينهما إلا بعد أن يحقق لهما ولنفسه ولغيرهم الأحلام البهيجة.
ولكن الشىء الجميل الذى ظل «زاهر» منطويًا عليه هو حبه للقرآن وعشقه له، وفتنته بالإيقاع الصوتى لآياته، فقد ورث ذلك عن أمه التى لم يكن يضاهيها أحد فى حسن التلاوة، وكانت تفتن الآخرين بتلاوتها خصوصًا سورة «الرحمن» التى ورث حبها عنها؛ ولذلك عندما كان يخرج المصحف من حقيبته القماش التى كان يحفظه فيها، يشمه طويلا ثم يقبّله، ويفتحه ويطالع سورة «الرحمن»، فيسترجع الكلمات فى قلبه ويسمع: «الرحمن علم القرآن. خلق الإنسان. علمه البيان...»، ويكاد يسمع صوت أمه، وصوت «مزنة» الطفلة تردد الآيات وراءها، أعجبهما لحن السورة فتعلقا بها، كانا يرددانه طوال الوقت فحفظاها بيسر. لم يكونا ليفهما معنى الكلمات ولم يكن يهمهما ذلك، لهما من الكلمات ظاهرها، ولا يحتاجان لأكثر من الصوت ليعرفا ما وراء الحرف من معنى وجمال. قال لها فى آخر لقاء بينهما أحببتك عندما خلق الله الإنسان، فردت عليه وأنا أحببتك عندما علمه البيان، كانت سورتهما وكأنها أنزلت لأجل أن يلتقيا على حبها، فيحل كل واحد منهما فى الآخر..»الشمس والقمر بحسبان». هكذا كان يعيش «زاهر» الابن فى جبال «ظفار» وفى قلبه القرآن يحضّه على الثورة من أجل العدل والحرية والكرامة الإنسانية والمساواة بين الناس، وفى عقله كتابات ماركس وإنجلز وغيرها من الكتابات التى ترسم لعقله طريقا علميًّا للخلاص.
وما أكثر الرعب الذى أصاب أمه عندما علمت أنه ترك مجلس العلم فى الكويت ليتحول إلى ثائر من الثوار فى «ظفار»، فتذهب إلى أخيها مستنجدة به، مذكرة إياه بما بينهما من عهود ومواثيق، ويستجيب الأخ الذى أصبح متنفذًا فى جيش السلطان ويعدها بأن يعيده إليها، ولكن سدى. فالثائر قد أصبح فى الضفة الأخرى المعادية، قطع نهائيًّا كل ما يمكن أن يصله بهما، وحتى عندما يقابله خاله محاولا إقناعه بأن أسباب الثورة قد انتهت، وأن أمور البلاد قد تحسنت وأن السلطان قد وعد... يقاطعه «زاهر» بخليط من الغضب والازدراء: ما انتهى شىء، وما تغير شىء غير الأسماء. ويفشل الخال فى إقناع ابن الأخت الحزينة الذى تحول إلى مقاتل صلب شرس لم يعد يعرف أو يذكر حنان الأم ولا حتى يريد أن يتذكر هذا الحنان، ويرفض ما عرضه خاله من المساعدة، طالبًا منه أن يخبر أمه، أنه سيصبح شهيدًا فى سبيل قضيته، وبأن الثورة باقية، وأنها لن تنتهى ولو بعد مائة سنة.
ونكاد نحن القراء نسترجع صورة «راشد» الذى رأيناه فى البداية، لكنه متجسد فى صورة ابن الأخت الذى يرث الچينات نفسها من العناد والإصرار، فيرفض أى حل وسط مؤكدًا أن الثائر لا يقبل الحلول الوسطى، ويطلب من خاله أن يخبر أمه أن الحُر لا يخون العهد ولو على رقبته، ويرجوها أن تسامحه. وينتهى الحوار بفشل الخال الذى رأى ابن الأخت يتفوق عليه فى عناد الصغر ويتمسك بعدالة قضيته رافضًا المساومة عليها، ولو فعل لكان من الفائزين الناجين، والذين تبتسم لهم الحياة وتقدم لهم أفضل ما عندها.
وأخيرًا يقبض على «زاهر» وتعانى أمه ويلات الذهاب إلى «الجلالى» حيث المعتقل الرهيب ولكنها لا تنجح فى مقابلته. وفى النهاية يأتيها أخوها «راشد» بالخبر اليقين، لقد مات «زاهر» من التعذيب، فتمضى وحيدة متذكرة ماضيها وحاضرها، ولكن تداعياتها تتوقف عند مشهد تدافع ماء الوادى وهو يرتفع ويكاد يلامس قدميها، وهى على الناقة مربوطة إلى خاصرة أخيها بحبل من الليف، وتسمع صوت «راشد» يأتيها من بعيد: «ينوصل رباعة.. ييشيلنا الوادى رباعة».
وتنتهى الرواية التى تتحول إلى شجوية آسرة، تجمع ما بين أفراح الميلاد وأحزان الموت، وتضم إلى جانب الورود التى تنمو فى الصخر، الصخور التى تحطم كل هذه الورود، جامعة ما بين الخير والشر، والعدل والظلم، البدايات والنهايات مركزة دائمًا على النهايات؛ فأحداث الماضى ليست جميلة كلها، وإنما هى تاريخ ينبنى على تضاريس صعبة عسيرة، تجمع بين الأشياء ونقائضها؛ فالأحلام تتجاور مع الكوابيس، وظلم ذوى القربى هو الوجه الآخر من ظلم الذين فى السلطة أو قلاع الحكام، والأفراح القومية التى هللنا لها ومعها فى الخمسينيات والستينيات سرعان ما انكسرت وتحولت إلى ثمر مر مع السبعينيات، لكن تبقى الرواية نفسها بوصفها معزوفة عُمانية تنقلنا عبر الأسى الجليل واختلاط الأحلام بالكوابيس ما بين مخايلات الأمل ووقائع اليأس، تاركة خيطًا رهيفًا لمن يريد أن يتجاوزهما معًا إلى عالم آخر نعبر فيه ماء السيل، تاركين فيه الثنائية الضدية بين الإخوة الأعداء إلى الثنائية المتوازية بين المواطنين المتساوين فى الحقوق والواجبات.
حلم قد لا نشهده
خلجان قد لا نرسو فيها رغم محبتنا للمدن الدافئة النائمة ببطن الخلجان!
وتبقى «ريا» هى البطلة التى يهيمن حضورها على الرواية كأنها أم موازية - وليست مشابهة- للأم التى كتب عنها «مكسيم جوركى» روايته التى أصبحت علامة فى تاريخ الرواية العالمية. ولكن «ريا» التى تبدو كشجرة رمان فى شخصية رسمتها كاتبة قرأت كثيرًا، وتعرف كيف تنسج روايتها من تناصات تلفت انتباه الأعين المتأملة؛ فهناك شجرة الرمان التى تذكرنا برواية «تحت ظلال شجرة الرمان» للكاتب الإنجليزى - الباكستاني الأصل- «طارق على»، وهناك الإشارة إلى الأبوين اللذين نسيا طفلهما الرضيع فى حيفا أثناء الإغارة الوحشية لليهود، وهى إشارة تذكرنا برواية غسان كنفانى «عائد إلى حيفا». وهناك أشكال التضمين التى تستعين بالقرآن فى مواضع كثيرة من الرواية؛ فقد ورثت «ريا» عن أبيها حسن التلاوة؛ ولذلك تمتلئ فقرات الرواية بآيات القرآن التى تبدو كأنها نغمات موازية لأحداث الرواية، ومن ثم تشكل إيقاعا صوتيًا لما فى نفوس أبطالها، وتؤدى - إلى جانب ذلك- وظيفة موازية، كأنها نوع من الإشارة الضمنية التى تومىء إلى أن الثورة على الظلم لا تتعارض على الإطلاق مع الإيمان بأعظم ما في الإسلام، وهو كتابه العزيز.
وتبقى أخيرًا الإفادة من المأثور الشعبى في رسم صورة «ريا» التى تقدمها لنا الرواية عن طريق جمالها الذى يتحدَّث عنه الجميع فى نوع من التصوير الذى يدنو بنا من طرق تصوير النساء الساحرات فى الواقعية السحرية، ولكنها واقعية شعبية فى الرواية، أعنى واقعية يمكن أن تصف «ريا» بأنها «وردة السراير التى لو مشت على ساقية الفلج يسيل، وإن كان ماؤه غائرًا فى شدة القحط، ويقولون: كانت تعقد عزمها وتغمض عينها، وتستدرج السحاب فتفيض البلاد ماء وخضرة». هذا الوصف لريا يؤكد كونها العمود الأساسى الذى تنبنى حوله الرواية، وذلك على نحو يجعل من الحضور النسوى حضورًا لافتًا للانتباه، ولكن بما لا يشى بنزعة نسوية زاعقة حتى لو اتهمت «ريا» الرجال بالقسوة فى ثنايا وصفها لأخيها. ويمكن أن نلاحظ أخيرًا أن الكاتبة تستعين بالإشارة إلى حضور الترانزستور إلى التحولات المادية المحدثة التى تؤدى إلى تحولات مصاحبة فى الوعى الذى يبدأ فى استشراف آفاق جديدة من الوعى وهو نوع من التناص الذى يلفتنا إلى زقاق المدق التى استبدل فيها نجيب محفوظ الراديو بالراوي الشعبى. وهو التناص الذى سبقها إليه عبد الرحمن منيف فى خماسيته «مدن الملح».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.