قل ما شئت عن أكشاك الفتاوى فى محطات مترو الأنفاق، ولكن الحقيقة أنها خطوة مهمة وجديدة و«خارج الصندوق» لمواجهة الإرهاب من جذوره، بل يمكن القول إنها الخطوة العملية الأولى فى هذا الاتجاه، ويجب أن تتبعها خطوات أخرى كثيرة للنزول بالفكر المعتدل والإسلام الوسطى إلى الشارع. وكالة «أسوشيتدبرس» الأمريكية للأنباء التى لا يعجبها العجب وتكره مصر مثلما يكره المصريون الإرهاب اهتمت كثيرا بالفكرة وبثت تقريرا عنها، فقالت عن الأكشاك التى ظهرت أخيرا فى بعض محطات المترو إنها تأتى تطبيقا لدعوات الرئيس المتكررة للداخل والخارج لتجديد الخطاب الدينى ومحاربة الفكر المتطرف وإبعاد تهمة الإرهاب عن الدين الإسلامي. وحتى عندما حاولت الوكالة نقل آراء أحد المسفهين للفكرة، وهو الناشط جمال عيد، لم تنجح فى تحقيق مرادها، فقد نقلت عنه قوله إنها «فكرة غير مجدية»، وأن محاربة الإرهاب يجب أن تبدأ - من وجهة نظره - بمكافحة الفساد وإطلاق الحريات، وهو رأى غير موفق، وغير مقنع، ببساطة لأن جرائم الإرهاب وانتشار الأفكار المتطرفة وظاهرة «الذئاب المنفردة» موجودة الآن فى بلاد حرة ديمقراطية تحارب الفساد، متوسط دخل الفرد فى بعضها «فوق الخيال»، والحريات فى بعضها الآخر «سبهللة»، هذا إذا افترضنا أساسا أن مصر دولة قمعية وفاسدة و«ضايعة» لهذه الدرجة! قالوا عن أكشاك الفتاوى فى المترو إنها «بدعة»، رغم أنها موجودة ومنتشرة وناجحة جدا فى دولة مثل السعودية الشقيقة. قالوا عنها فكرة متعارضة مع مبدأ «مدنية» الدولة، وضد المواطنة، وتساءلوا : «ماذا لو طلب الإخوة الأقباط إقامة أكشاك مماثلة لهم»؟ ونسى أصحاب هذا الطرح أن من يقتلنا ويسفك دماءنا منذ سنوات تحت مسميات داعش والقاعدة وطالبان والإخوان وحماس وحسم وأنصار بيت المقدس وغيرهم يفعلون ذلك باسم الإسلام للأسف الشديد، وباسم تفسيرات منحرفة للنصوص، والمسلمون مطالبون بالفعل بكشف زيف ادعاءات هؤلاء ونشر الفكر المعتدل بدلا من ترك الساحة تماما لمشايخ «بير السلم» والمساجد «المختطفة» وزوايا التطرف والتكفير المنتشرة فى حوارى مصر ونجوعها، التى تنشر سمومها للبسطاء، وتؤدى إلى ضخ متطرفين جدد فى شبكات الإرهاب. سخروا من الفكرة «شكلا»، فاقترحوا إنشاء أكشاك للموسيقى، وأخرى للكتب، وطالبوا بتوفير النظام والنظافة والأمان فى محطات المترو أولا قبل تقديم الفتاوى، ونسى هؤلاء أيضا ضرورة تشجيع كل جهد حميد يبذل فى أى اتجاه، وعلى كل جهة القيام بمسئوليتها فى الجزء الذى يخصها، علما بأن ظهور رجال الأزهر أمام المواطنين مطلوب فعلا لمواجهة «طوفان» الدعاة والداعيات داخل عربات المترو وخارجها، واسألوا بناتكم وزوجاتكم عما يحدث فى عربات السيدات تحديدا من هؤلاء؟! وبالعكس، يا حبذا لو اتسع نطاق الفكرة، وكان لدينا دعاة «متحركون» أو فتاوى «متنقلة». ففى محطات المترو نفسها، لماذا لا يقولون للناس إن التزاحم والتدافع اعتداء على حرمات الآخرين ينهى عنه الدين؟ لماذا لا يقولون لهم إن تخطى الدور فى طابور التذاكر «عيب»، وأن التزويغ من ماكينات التذاكر «سرقة»؟ لماذا لا يقولون للناس إن إلقاء المهملات والقاذورات داخل المحطة وفى القطارات ليس من الإيمان فى شيء؟ وحتى خارج المحطات، لماذا لا يجد صاحب الدكان الذى وضع بضاعته على الرصيف وفى عرض الشارع من ينبهه من خلال هذه الفتاوى المتنقلة أن مكسبه «حرام»، بمنتهى الوضوح؟ لماذا لا يجد صبية النواصى والشباب المتحرش ببنات الناس من يعلمهم أن للطرق حرماتها، وأن ما يفعلونه ليس من الإسلام؟ لماذا لا يجد عامل النظافة الذى يتسول بدلا من أن يكنس الشارع من يحذره من أن قلة راتبه ليست مبررا لهذا التنطع؟ لماذا لا يجد الموظف المتكاسل أو المرتشى من يفهمه أن ما يكسبه من مال لا يسمى «إكراميات»، ولكنه «رشوة» ومال لا خير فيه ولا بركة؟ لماذا لا يجد سائق التاكسى الممتنع عن تشغيل العداد من يشرح له كيف أن العداد عبارة عن «عقد» بينه وبين الراكب بوساطة الدولة، ولماذا لا يجد من يشرح له تفسير آية «يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود»؟ لماذا لا تكون مهمة هذه الفتاوى المتنقلة مجرد نصائح تدعو إلى حسن الخلق بالحكمة والموعظة الحسنة، ودون إجبار أو فظاظة أو إساءة إلى أحد؟ ودون تدخل فى خصوصيات أحد؟ .. ساندوا أكشاك الفتوى وشجعوها، بدلا من «التسخيف» و«التخويف»، فمجتمعنا بالفعل فى أمس الحاجة الآن - وللأسف الشديد - إلى «مفتي» و«رجل شرطة» لكل مواطن! لمزيد من مقالات هانى عسل