حسنًا فعل الرئيس عبد الفتاح السيسى إذ دعا الطالبة المتفوقة المجتهدة مريم فتح الباب إلى حضور مؤتمر الشباب بالاسكندرية لتكريمها فأجلسها على يمينه, حيث أكد الرئيس بهذا مجددًا تقديره لقيمة بذل الجهد والمثابرة والصبر وصولًا إلى تحقيق الغايات، وهو ما سيحقق لمصر نهضتها الكبرى القادمة. وحسنًا فعل قداسة البابا تواضروس الثانى إذ ذكرها فى عظته الأسبوعية ووصفها بأنها «بنت بمائة رجل». وحسنًا فعلت وسائل الإعلام إذ احتفت بالبنت الشاطرة التى رغم الفقر والإقامة مع كل أفراد أسرتها فى غرفة واحدة، ومذاكرتها بمخزن قديم بإحدى بنايات مدينة نصر، استطاعت التفوق والنبوغ. خلاص يا عم.. خلصت المجاملات والتشكرات وإعطاء كل ذى حق حقه، ودبّجت الاستهلالة المريحة الشبيهة بطربوش الميرى يضعه الموظف العمومى على رأسه قبل الدخول على رؤسائه؟ تعالوا الآن ندخل فى صلب الموضوع ! صدق أو لا تصدق.. لقد وضعتنا مريم البريئة الجميلة المتفوقة فى مأزق حرج -دون أن تدرى- فألزمتنا الوقوف للحظات أمام مرايا أنفسنا، ولسان حالها يهتف فى وجوهنا: «هيا.. اقرأوا مراياكم.. وانظروا ماذا ستقول لكم.. فالمرايا أبدًا لا تكذب». فماذا ستقول لنا المرايا؟ ستقول -أولًا- إننا ضبطنا أنفسنا متلبسين بأننا لم نعد نصدق أن البسطاء منا مازالوا قادرين على الكفاح والمقاومة وامتلاك الأمل. لقد بوغت الشعور الجمعى فينا نحن المصريين بأن ابنة حارس بناية يمكن أن تتجاوز عراقيل حياتها اليومية فتنبغ وتسبق أقرانها. «ماذا جرى لنا يا خلق الله؟ أليس هذا الذى أنجزته البنت الذكية هو ما درج عليه المصريون منذ مئات، بل آلاف السنين، وأن «من جدّ وجد»؟ ولسوف تسألنا المرايا - ثانيًا - فى عتب: هل كان نبهاؤكم والنابغون فيكم على الدوام إلا من أبناء هؤلاء البسطاء؟ فتشوا فى ذاكراتكم وسوف تجدون أن آلاف العباقرة الذين أضاءوا لنا الطريق وصنعوا أمجاد هذا الوطن فى كل المجالات لم يولدوا وفى أفواههم ملاعق من ذهب. تريدون أسماءهم.. ابحثوا فى جوجل ! وستهزأ منا المرايا - ثالثًا- إذ ترانا مهرولين، كالذى لسعته نحلة فأيقظته من سباته، لنطوف فى محراب مريم مهللين مكبرين كأننا اكتشفنا العجلة من جديد، ما الجديد يا سدنة إعلامنا المحترم فى أن فقيرًا من أبنائنا قد تفوّق؟ أم أنكم لا تصدقون أن هذا الصنف من الناس مازال موجودًا بيننا؟ أكان من الضرورى أن تضيئى النور يا مريم ( على رأي العظيم الراحل يوسف إدريس) فتوقظينا من رقادنا وتكشفينا؟ لقد جعلتِ يا ابنتى آباء كثيرين وأمهات ينظرون إلى أبنائهم وبناتهم فيعيدون تفكيرهم فى التدليل والطبطبة وإنفاق عشرات الآلاف على الدروس والسناتر فلم يستطيعوا تحقيق ما حققته أنت ( بسم الله ما شاء الله). يقال إن أحدهم عرض على مريم هدية من ذهب فرفضت ورفض أهلها. طبعًا كان لابد أن ترفض.. فمنذ متى والذهب يصنع مجد الماجدين؟ إن الدرس الذى لقنته لنا تلك البريئة الحسناء هو أنك أنت من ستصنع بإرادتك وإصرارك مجدك الخاص.. فهل مازلنا نؤمن بهذه البديهية أم سنظل نعتمد على معارف و «وسايط» بابا.. وماما؟ وقد تهمس لنا المرايا -رابعًا- (فليتنا ننصت) بأن الثانوية العامة مازالت حتى ساعة تاريخه بوابة أبناء الفقراء لولوج المجد، وحجز أماكن لهم تحت الشمس، ولفت أنظار الناس والإعلام والدنيا جميعًا حتى ولو لساعات قليلة، فليتكم لا تغلقون تلك البوابة فى وجوههم.. فهم يا سادة لم يعد أمامهم الكثير من البوابات. مريم ستصبح إن شاء الله «دكتورة أد الدنيا» ونسأل الله تعالى أن يأخذ بيدها فتكون طبيبة ناجحة نافعة لمجتمعها هى وشبيهاتها (وهن كثيرات لو كنتم لا تعلمون)، إلا أن المرايا اللئيمة تأبى الصمت أو التوقف عن الوسوسة وسوف تبخ سمومها فى آذاننا لتسأل: وماذا بعد أن تفوقت مريم وشبيهاتها؟ ماذا ستفعلون لها وبها؟ أتراكم سوف تكتفون بالكلام المدهون بالزبد وفلاشات الكاميرات ثم تمسحون شواربكم وترحلون لتتركوها لجامعات أميركا تنشلها منكم كالمغناطيس لتقوى أميركا فوق قوتها بهذه العقول الفذة ونبقى نحن على ما نحن عليه؟.. إياكم أن تفعلوا.. واعلموا أن الذين سيبنون لكم هذا المجتمع هم هؤلاء البسطاء المتميزون. وقد يحلو للمرايا - خامسًا- أن تلدغ عقولكم بهذا السؤال: وهل مريم فتح الباب وحدها من تفوقت؟ وماذا فعلتم للآلاف الذين تفوقوا قبلها؟ هل نسمع عنهم الآن شيئًا أو يأتى لهم أحد على ذكر؟ إن هؤلاء هم كنز الوطن الحقيقى فهلا حافظتم على الكنز؟ لا.. بل هناك - سادسًا - في قلب المرايا سؤال لاذع ومحير هو: وماذا ستفعلون يا حلوين فى مئات آلاف الأطفال الذين يمكن أن يكونوا فى مثل نبوغ مريم فى السنوات المقبلة؟ أتتركونهم نهبًا للتعليم الخاص (اللى بالدولار)؟ طيب لو كانوا على أدّ حالهم مثل مريم.. فأين يذهبون؟ نعم.. تعرف المرايا أن التعليم مكلف جدًا، وأن الحكومة -لا مؤاخذة فى الكلمة- جابت آخرها، ولم تعد قادرة على استكمال مجانية التعليم بالطريقة التى كانت عليها من قبل، إذ العين بصيرة واليد قصيرة.. وحتمًا ستنظر الحكومة فى المرآة وتصرخ: قولى لى أنت ماذا أفعل يا فالحة؟ تريدون الحل؟ افعلوا مثلما يفعل الآخرون فى العالم الحر المحترم.. علموا المتميزين الذين سيجدى معهم التعليم حتى لو كانوا أبناء لحراس المبانى أو لصغار الموظفين والفلاحين، أو حتى لعمال النظافة.. وأرسلوا فى المدائن حاشرين وكشافين للمواهب والموهوبين، وابذلوا لهم كل ما ملكت خزائنكم من مال.. فليس فى الدنيا- يا بشر- استثمار أهم وأنفع من تعليم البشر. لمزيد من مقالات سمير الشحات