لم يكن لقاء تقليديا ذلك الذي حمل عنوان «لقاء المثقفين والمفكرين» في المؤتمر الذي عقدته مكتبة الإسكندرية، والذي جمع أطيافا مختلفة من النخبة المصرية، وشرفت بحضوره، تلبية لدعوة كريمة من الدكتور مصطفى الفقي، المدير الجديد لمكتبة الإسكندرية، والذي تنتظر منه المكتبة ودورها الطليعي الكثير، والذي جاء خلفا للدكتور إسماعيل سراج الدين الذي قدم الكثير للمكتبة على مدى الخمسة عشر عاما الماضية، وكشفت النقاشات المكثفة التي دارت عن جملة من الإشكاليات التي لم تزل بحاجة إلى جلسات علمية ومنهجية تشتبك مع الواقع المصري وقضاياه الحياتية وتسعى صوب تقديم رؤى مغايرة تستند على التفكير الموضوعي والحلول الإبداعية. بدا واضحا أن ثمة خلطا لدى البعض بين الطابع العالمي للمكتبة، والدور التنويري المحلي الذي يجب أن تلعبه، فعالمية المكتبة لا تعني بأي حال من الأحوال تخليها عن واقعها المصري والعربي، وقد لعبت المكتبة في هذا السياق دورا جيدا، وإن كان بحاجة إلى تعميق أشد، وقد أحسن الدكتور مصطفى الفقي قولا حين أدرك بحسه السياسي أن الدور الوطني المنشود للمكتبة يختلف عن الاشتباك السياسي المرفوض، ولا شك أن المشتركات الإنسانية هي الإرث الذي يجب على المكتبة أن تسعى صوب الحفاظ عليه والتأسيس لتعاون خلاق بين مصر ودول العالم في إطار هذه الصيغة الإنسانية الخلاقة الداعمة لحريات التفكير والبحث والتبادل العلميين وحرية الرأي والتعبير. وقد أدهشني هذا التصور التقني المحض لدى البعض في التعامل مع فكرتي السياسة والثقافة، والنظر إليهما باعتبارهما كيانين منفصلين، حيث يتجاهل هذا الوعي الغض ذلك الجدل المستمر بين السياسي والثقافي. وفي لحظة فارقة من عمر الأمة المصرية، بدا واضحا فيها أن هناك عطبا حقيقيا في أدوات صناعة العقل العام، وتقاعس المؤسسات المنتجة للمعرفة والمنوط بها تحرير الوعي المصري عن أداء دورها الطليعي في رفد الثقافة الوطنية بقيم طليعية جديدة ستكون ثمة مهام وغايات كبرى على المكتبة أن تنهض بها، بدءا من التكامل مع المؤسسات المعرفية والثقافية والعلمية الأخرى، ومرورا بالإسهام الفاعل في صناعة العقل العام، ووصولا إلى المشاركة في تهيئة المناخ العام الداعم لقيم الاستنارة والتقدم. تتجدد أسئلة التنوير بوصفها أسئلة لأمة في خطر، يضربها إعصار الإرهاب الدامي، والذي يشهد الآن تغولا وحشيا يروح ضحيته أبناؤنا وجنودنا البواسل، وتبدد مواردنا وتتصدع مصادر الدخل القومي، ومن ثم فعلى المكتبة أن تؤسس مشروعا قوميا وعالميا يجابه التطرف والإرهاب، اعتمادا على طابعها العالمي من جهة، وانطلاقا من دورها الوطني من جهة ثانية، وأن يكون لهذا المشروع آليات تنفيذ، بما يجعله متخلصا من حالة الرطان الفارغ التي لا تنتج معنى، وينبغي أن ينطلق هذا المشروع من تصور منهجي يحمل رؤية كلية للعالم، فلا تجزئة في النظر إلى الظاهرة، ولا تعمية في الكشف عن أسبابها، ولا حلول تلفيقية لن تفضي إلى شيء سوى المزيد من العتامة، فمساءلة الموروث، والكشف عن أسباب الانقطاع الحضاري، ودراسة الإخفاق العربي في مشروع التنوير، وإعادة الاعتبار إلى أسئلة النهضة، وتجديد النخبة، والكشف عن العلاقة بين الرجعية والاستعمار الجديد، ومراجعة التحولات الاجتماعية، والانسداد السياسى، والالتحاق بكومبرادور رأس المال العالمي، وهيمنة التصور الاستهلاكي على الواقع المصري، كلها قضايا مهمة ينبغي مناقشتها، مع الأخذ في الاعتبار حتمية التأسيس لخطابات مختلفة في الواقع، تملك آلية النفاذ إلى الجماهير من جهة، وإمكانية التطبيق من جهة ثانية، اتكاء على إرادة سياسية يجب أن تجعل من مشروع التنوير للعقل العربي هدفا وغاية. تبدو مصر الآن بحاجة حقيقية إلى الابتعاد عن الصيغ الرجراجة في فهم العالم، فلا الإسلام السياسي به جماعات معتدلة، ولا الجماعات الدينية المغلقة بها أفكار صالحة للحياة، ولا البنية المعرفية التراثية قادرة على الخروج بنا من النفق الراهن، ومن ثم يجب مثلا إلغاء الأحزاب الدينية، وإعادة الاعتبار للطابع المدني للدولة المصرية التي عانت كثيرا منذ السبعينيات من القرن الماضي من مظاهر التديين الزائفة للمجتمع، والتي تعاظم معها نمو شرس للأصولية الإسلامية اعتمادا على سلطة العرف والواقع والتأويل الديني الخاطيء، فصارت الحقيقة محتكرة، وصكوك الآخرة يوزعها أمراء الجماعات الدينية وشيوخها. في اللحظات التي تتعثر فيها الأمم، وتفقد قدرتها على المساءلة، وتتجه صوب الركون والاستنامة، لن يكون من مخرج سوى اعتماد التفكير العلمي منهجا وطريقة في رؤية العالم وإدارة المؤسسات، وبما يعني أن من بين الأدوار المركزية التي يجب على مكتبة الإسكندرية التوسع فيها الاهتمام بالنشر العلمي، ووصله بمشروع التحديث المصري، أو بعبارة أدق، جعله حاملا رؤية التحديث للأمة المصرية في لحظتها الراهنة، بدءا من استعادة المناطق المضيئة في تراثنا الفكري العقلاني المعاصر، ووصولا إلى قراءات راهنة للواقع المعيش تحمل هذه الروح النقدية بعقلانيتها وانفتاحها الحر على العالم.وبعد.. يمكن أن تخرج أسئلة التنوير من القاعات المكيفة وتصل إلى الجماهير، ولكي تصل إلى الناس يجب أن يكون هناك خطاب متماسك لدى النخبة، عقلاني، غير متعال على الوجدان الجمعي، يدرك الحاجات النفسية والفكرية للجماهير، ويعي الظرف التاريخي، والسياقات المحيطة، وإذا توافر هذا الخطاب الحر النزيه المسئول مسئولية وطنية وقيمية فإنه سيمثل قيمة مضافة إلى الدولة المصرية من جهة، وإلى إرث التنوير في العالم كله من جهة ثانية، كل ما علينا فحسب أن نبدأ ونراكم، ونفكر خارج الصندوق، ونؤمن أن قيم العقل النقدى والخيال الجديد ممر ساحر صوب المستقبل. لمزيد من مقالات د.يسرى عبد الله ;