ثمة حوار جانبي حول تفسير الإرهاب يديره الآن أستاذان جامعيان كبيران هما الدكتور مراد وهبة أستاذ الفلسفة والدكتور سمير تناغو أستاذ القانون. بدأ الحوار من مقال بعنوان «الأصولي» كتبه الدكتور وهبة فقام الدكتور تناغو بوضع المقال داخل «برواز» ضخم وأرسله بالبريد العاجل إلى صاحبه تعبيراً بالطبع عن إعجابه ! فرد الدكتور وهبة المجاملة بمثلها - لكن بدون برواز- بإشادة بحروف من نور بما كتبه الدكتور تناغو من أن سبب الإرهاب ليس اقتصادياً ولا اجتماعياً ولا سياسياً وإنما سببه الوحيد هو الدين. ولأن الدكتور مراد وهبة وضع مسألة تفسير الإرهاب داخل إطار أوسع أطلق عليه المناظرات الكبرى التي استحضر منها الحوار بالمراسلة بين الكاتب الروسي العظيم تولستوي والفقيه المجدّد الإمام محمد عبده فإن الموضوع يستحق النقاش لا سيما وأن الدكتور وهبة هو أحد مفكرينا الكبار من ناحية، ولأننا أصبحنا نفتقد من ناحية أخرى إلى المناظرات الفكرية الكبرى في حياتنا المعاصرة إذ اختفت وكاد يحل محلها كتابات ما يشبه «التيك أوي» السريعة، وهي فيما يبدو كتابات أصبحنا نقدم عليها ونشتهيها لما يفوح منها من نكهات لغوية تستخدم فنون السخرية أو الدعابة أو التجريح أحياناً. فلتكن هذه إذن مناظرة على قدر جدية ما تثيره من قضية تشغلنا جميعاً وهي قضية تفسير الإرهاب. أصل القضية وأساسها الفلسفي قبل الدخول في فروعها وتفصيلاتها هو المنهج الذي نستخدمه لتفسير الظواهر الإنسانية في حياتنا مثل ظاهرة الإرهاب. هناك منهج التفسير الأحادي الذي يرى الظاهرة كلها في سبب أو عامل وحيد متجاهلاً العديد من الأسباب والعوامل الأخرى التي لا شك أنها تسهم في حدوث الظاهرة. وهناك منهج التفسير التكاملي الذي ينطلق من التسليم بتعدد أسباب وتنوع مستويات تشخيص الظاهرة رافضاً اختزالها في عامل واحد أو مستوى واحد واستبعاد كل ما عداه. وحينما يقول أستاذان جامعيان كبيران أن الدين الإسلامي وحده هو سبب الإرهاب ويقطعان بعدم صحة الأسباب الأخرى من اقتصادية أواجتماعية وينظران إليها كأسباب مقحمة أو مصطنعة فهذا أمر مقلق وغير علمي. ليس مبعث القلق بالطبع هو الهوية الدينية للأستاذين الكبيرين لأنهما في الحقيقة نموذجان للانفتاح والاستنارة لكن القلق يكمن في خطورة المنهج الأحادي لتفسير الظواهر الاجتماعية وما يفضي إليه من خلاصات ونتائج لا بد وأن تترتب بالضرورة على انطلاقهما من التفسير الديني وحده للإرهاب. مأزق التفسير الأحادي للإرهاب كما التفسير الأحادي لكل ظاهرة اجتماعية أخرى هي أنه لا يقيم وزناً لمنطق نظرية السببية ولا يطيق معاناة تقصي المستويات الوسطى والمعقدة من الحقيقة، ويتعامل مع الأخيرة - أي الحقيقة كما لو كانت مادة فيزيائية أو كياناً رياضياً أو منطقياً. الإرهاب هو بيقين سلوك إنساني إجرامي يصدر عن «إنسان» لا يمكن بأي معيار فصله عن مجمل ظروفه ومعطياته الاقتصادية والاجتماعية والنفسية والعقلية والسياسية. نعم بوسعنا في علوم الفيزياء والكيمياء أن نقطع ونجزم بأنه لولا هذا السبب ما كانت هذه النتيجة. وبوسعنا أيضاً في علوم المنطق والرياضيات أن نختزل الكثير من الخلاصات والنتائج في صورة معادلات لا تحفل بالإنسان لأنه ببساطة لم يكن له دور لا في نشوئها ولا في صياغتها. ولهذا فإن أحد أخطائنا الشائعة أننا نستخدم كلمة «الأسباب» وليس «العوامل» في تفسيرنا للظواهر الاجتماعية الإنسانية مع أن الفارق بينهما كبير. فالسبب كما معروف لا يكون سبباً إلا إذا انطوى في ذاته على شرطي اللزوم والكفاية لإنتاج واقعة تالية هي النتيجة بحيث يصبح وقوع الثانية أمراً حتمياً بوقوع الأولى، وهذا هو منهج تفسير علوم الفيزياء والكيمياء ومختلف علوم الطبيعة. أما في العلوم الاجتماعية التي تنشغل بدراسة الظواهر الإنسانية فالأليق والأدق أن نستخدم كلمة «العوامل» بدلاً من «الأسباب» لأن العامل هو الظرف أو المعطى الذي يسهم مع غيره في إنتاج الظاهرة. التفسير التكاملي وليس الأحادي هو ما يقدم لنا تشخيصاً للإرهاب أكثر اتساقاً مع المنطق وأكثر صدقية مع الواقع. ليس هناك عالم أو باحث اجتماع في العالم كله استبعد دور العوامل وليس الأسباب الاقتصادية أو الاجتماعية أو النفسية أو العقلية أو السياسية التي أنتجت وفاقمت ظاهرة الإرهاب الذي نتلظى بشروره ووحشيته. بالطبع قد لا تتساوى أنصبة هذه العوامل فيما بينها في إنتاج الإرهاب، فهناك عوامل أقوى وأخرى أضعف، وثمة عوامل نشيطة وأخرى كامنة، وعوامل ثابتة وأخرى متغيرة. الأمر المؤكد أن الإرهاب كظاهرة اجتماعية هو نتاج لمجموعة متعددة ومتنوعة من العوامل. قصور التفسير الأحادي للإرهاب واختزاله في العامل الديني وحده وبذاته حتى ولو تحت تسمية الإسلام السياسي لا يكمن فقط في مأزقه المنهجي بل يتجلى أيضاً في نزوعه إلى التعميم، وهو بدوره آفة منهجية أخرى. كان بوسعنا أن نقول مثلاً في معرض تفسير الإرهاب «التأويل الديني المغلوط » أو «التأويل المتطرف للنص الديني» من غير أن يصل التعميم إلى هذا الدرك من الإطلاق. كان الأدق إذن والأجدى التركيز على التأويلات الدينية المغلوطة التي تراكمت عبر الزمن وأعادت اليوم إنتاج نفسها بصورة أكثر تطرفاُ وانغلاقاً حتى أوصلتنا إلى هذه الحقبة الإرهابية التي نكتوي بها. وهذا عمل فقهي وفكري لا يكتمل فقط بدحض المقولات المتطرفة ولكن أيضاً باستظهار ما هنالك من تأويلات دينية مستنيرة وعقلانية وذات نزعة إنسانية منفتحة على العالم ومتسامحة مع الآخر، وهي تأويلات وقراءات موجودة ليس بوسع أحد أن ينكرها ولا يليق تجاهلها. جزء من المشكلة أن هناك مواجهة فقهية وفكرية لم نقم بها بعد على النحو المطلوب لأنها تتطلب شجاعة ووقتاً ونظماً تعليمية تحدث قطيعة معرفية مع نظام التعليم العصروسطي السائد في مصر حالياً. ولعلّ أكثر المقاربات شجاعة وعمقاً وتأصيلاً تاريخياً وعلمياً عن الإرهاب هو ما قام به المفكر العربي الكبير مهضوم الحق إعلامياً الدكتور هاشم صالح. لقد أنتج هذا الرجل الزاهد عميق الفكر أهم كتاب عربي ظهر في المائة عام الأخيرة بعنوان «الانسداد التاريخي» لماذا فشل مشروع التنوير في العالم العربي؟نحن جميعاً دولةً ومؤسسات بحثية وأمنية ونخباً وكتاباً نحتاج إلى قراءة هذا الكتاب. إنه أقل الكتب استخداماً لمصطلح الإرهاب لكن أكثرها ثراء وعمقاً في تشخيصه واستجلاء جذوره. ما نحتاج إليه الآن هو مناظرة لا تنطلق من قناعات جاهزة أو انطباعات مسبقة أو كتابات سريعة لكنها تشعل عصفاً ذهنياً حقيقياً لعلّه يكون بداية التجديد. لمزيد من مقالات د. سليمان عبد المنعم;