يصلح الإبداع الشعبى مجهول المؤلف لفهم شخصية الشعب المصري. وازداد يقينى بهذا الاعتقاد بعد قراءتى كتاب «الشخصية المصرية فى الأمثال الشعبية» (كتاب الهلال) للدكتورة «عزة عزت»، وأحد محاوره ذلك التشابه بين الأمثال فى مصر القديمة والمعاصرة، كدليل على أنّ ثقافتنا تقوم على الإتصال الحضاري، فالحكيم «بتّاح/ حتب» يقول «اقض اليوم فى سعادة. فلا أحد يأخذ متاعه معه في الموت»، وبعد آلاف السنين يقول الناس فى عصرنا «الكفن مالوش جيوب»، ومن الأمثال القديمة أيضا «لاتجعل لنفسك صورتيْن»، يقابله الآن «ماتبقاش بوشين». وترى د. عزة أنّ الأمثال المصرية فيها «كناية بليغة» مثل «قاعد زى قرد قاطع» و«شُرَّابة خُرج»، وأحيانًا يكون الإعجاز البلاغى بكلمة واحدة مثل هلفوت ودُهُل ولطخ ونتّاش ومهياص وتماحيك وتلاكيك.. إلخ. وفى إبداع بلاغى صاغ الأميون رؤيتهم لواقعهم فقالوا «عمايم على روس بهايم»، و «زى الطبل.. صوت عالى وجوف خالى»، و«مين دارى بيك يللى فى الضلمة بتغمز» و«ضلالى وعامل إمام» و«يحجج الجمل والبردعة. يروح بذنب وييجى بأربعة»، وتدين الأميين لم يمنعهم من إبداع المثل الشهير «اللى عاوزه البيت يحرم على الجامع» وأكمله بآخر «لقمه فى بطن جعان أحسن من بناية جامع»، وتمتزج بلاغة الصياغة بالحس الإنسانى فى «حسدوا الغجر على ضِل الشجر». وامتلكت د.عزة شجاعة الاختلاف مع الثقافة السائدة التى ترى أن المصريين عرب فكتبتْ: «هناك صفات متميزة للشعب المصرى ينفرد بها دون غيره من الشعوب» ونقلتْ عن د. سيد عويس أنّ المجتمع المصري: «فريد متميز عمن حوله. وهو أصل حضارة الإنسان منذ وُجد. وهومجتمع لم يفن ولم تتغيرخريطته رغم الحكام وسنوات القهر. وهويُقدّس الأم وبيته» وقالت دكتورة عزة «إن الفتح العربى لم يطمس الشخصية المصرية بل ظللها ببعض السمات الدخيلة عليها، وإلاّ ما استشعرنا اختلافًا وتباينًا واضحًا بين المصريين والعرب». وبدراستها لعرب الخليج كتبتْ: «إتضح لى أنّ فارقًا كبيرًا (يفصل) بين المصريين والعرب. وأنّ أسلوب الفخر والتباهى على الآخرين نمط سلوك عربى. وأنّ المصرى كان محبًا للعمل الجماعى ومبدعًا فيه، وإلاّ ماترك لنا آثارًا عظيمة». والأمثال الشعبية تدل على اختلاف الشعوب، لأنّ «الشخصية القومية» لكل شعب تُعبر عنها الصياغة والوجدان والبيئة لا الألفاظ، وهذا ما ميّز بحث د.عزة حيث ذكرتْ أمثلة عربية وقارنتها بأمثال شعبية مصرية. يقول العربى «ترى الفتيان كالنخل ومايدريك ما الدخل» وهو هنا يقصد الداخل، لكن القافية جعلتْ الكلمة مختلفة، بينما المصرى يرسم صورة مغايرة بقوله:«من برا هلا هلا ومن جوا يعلم الله»، ويقول العربى: «حسبك من الشر سماعه»، ويقول المثل المصرى:«إبعد عن الشر وغنى له»، ويقول العربى: «قَلَبَ له ظهر المُجن» وهو مثل يستحيل على غالبية المصريين المتعلمين فهمه، بينما المثل المصرى يقول: «ورّاَه الوِشّْ التانى» ويقول العربى: «حسبه صيدًا فكان قيدًا» ويقول مثلنا الشعبي «تيجى تصيده يصيدك» ويقول العربى: «بشّر مال الشحيح بحادث أو وارث»، والمثل المصرى يقول: «مال الكُنزى للنُزهي»، ويقول العربى (علىّ أنْ أسعى وليس علىّ إدراك النجاح) نفس المعنى صاغه الخيال المصرى فى صورة مجسدة ومختلفة: «هوّ أنا مغسّل وضامن جنة». وذكرتْ د.عزة أنّ المثل الشائع «أنا ومن بعدى الطوفان» الذى يُصنّفه كثيرون ضمن الأمثال المصرية، هو مثل عربى ونصه «أنا ثم الطوفان». ونقلتْ عن العالم الكبير «سليم حسن»: «تدل نتيجة البحوث التى قام بها علماء الآثار فى تاريخ العالم القديم أنّ مصر كان لها قصب السبق فى الانتاج الأدبى. وإنّ بابل وأشور لم تتركا شيئًا يستحق الذكر نسبيًا فى هذا المضمار». والشعب المصرى يُعبر عادة عن سخطه بالسخرية والنكتة اللاذعة، والشجن، وليس بالعنف. فقد يحبّ حاكمًا مثل عبد الناصر، لكن هذا الحب لم يخل من نُكت ساخرة منه ومن عصره. وذهبت دكتورة عزة إلى أن الإرهاب والتطرف الدينى مظاهر دخيلة على الشخصية المصرية. وتوقفت أمام ما ذكره علماء علم المصريات عن الحضارة المصرية، مثل راي العالم الألمانى «أدولف إرمان»: «لم يتعطش المصريون للأخذ بالثأر كما كان الحال فى الشعوب الأخرى. ولم يكن لديهم كلمة صريحة يُعبّرون بها فى لغتهم عن هذا الشعور بالثأر. وكتبتْ المؤلفة: «إنّ شخصية مصر كما ذكر كثيرون لا تذوب فى الآخرين. ولكن الآخرين هم من يذوبون وينصهرون فى بوتقتها. فهى تُؤثر أكثر مما تتأثر، وهذا سرها ولغزها».