دون أدنى خجل، خرج مايك بومبيو مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية ال «سي. آى . إيه» الأسبوع الماضى شاكيا فى العلن من تمتع إيران بنفوذ هائل فى الشرق الأوسط، وأنها فى كل مكان فيه، فبما نفسر تصريحه غير المألوف، الذى بدت فيه واشنطن مغلوبة على أمرها؟ لدينا عدة تفسيرات، من بينها، أنه قد يكون خطوة استباقية تستهدف تمهيد السبيل لتوجيه ضربة سياسية وربما عسكرية لطهران التى تمددت على رقعة الشرق الأوسط بسرعة لافتة خلال السنوات السبع الماضية، أو أنها تأتى فى سياق الحرب النفسية بين أمريكاوإيران، وتحفيز مكامن القلق والتوتر لدى دول المنطقة لدفعها نحو التقارب السياسى والأمنى أكثر فأكثر مع واشنطن، وإبرام صفقات سلاح أكبر مع شركاتها، وهو ما سوف ينعش مفاصل الاقتصاد الأمريكي، ويجدد خلاياه المعطوبة، ومن جهة أخرى تبعد دول الإقليم عن المسار الروسى الذى ينافسها بشراسة متناهية فى الشرق الأوسط، وأخيرا قد يكون فى إطار قاعدة أن الهجوم خير وسيلة للدفاع لحين إعداد العدة ورسم سياسة لها مفعولها الإيجابى للتصدى للنفوذ الإيراني. أيا كانت الأحوال فإن التفسيرات السابقة وغيرها لا تنفى أن إيران نجحت حتى الآن فى إنهاك القوى الدولية والإقليمية بقدرتها العالية على المناورة والمراوغة، وعندها من الأوراق والأدوات المنظورة وغير المنظورة الكفيلة بإزعاج الكبار والصغار إقليميا وعالميا، منها قدراتها النووية والصاروخية المتقدمة، وبراعتها الفائقة فى مجال الكمبيوتر، ولا استبعد أن يكون لها دور ما فى الهجمات الإلكترونية الأخيرة التى تعرضت لها دول عديدة، فى طليعتها الولاياتالمتحدة، ولا ننسى أن طهران تربطها علاقة قوية بكوريا الشمالية صاحبة السوابق فى هجمات مماثلة على كوريا الجنوبية. وتلعب طهران فى المنطقة بشروطها وليس بشروط الآخرين فى الإقليم وخارجه، ولا تكف عن بعث رسائل مضمونها أنه على الراغب فى محاورتها التقيد بما تمليه من اشتراطات وتفاهمات مستغلة كونها طرفا ثابتا ومؤثرًا فى الأزمات الحادة المندلعة فى العراقوسوريا ولبنان والبحرين وصولا إلى اليمن، وتؤكد فى كل شاردة وواردة أن تسوية تلك الأزمات يجب أن تتم عبر بوابة طهران وليس عبر أى بوابة أخري، وأنها على استعداد تام لرد الصاع صاعين لمَن يفكر فى مهاجمتها، أو وقف وإعاقة تمددها الذى وصل لحدود أمريكا اللاتينية التى تعتبرها السلطات الأمريكية فناءها الخلفي، وبدأت تستشعر خطرًا داهما عليها وعلى حلفائها هناك. ويسود اعتقاد لدى دوائر صناعة القرار الإيرانية أن أمريكا غير مهيأة لمواكبة قفزاتها فى التغلغل والسيطرة على بعض دول الشرق الأوسط مع تراجع نفوذها وسطوتها فى المنطقة، وترى من زاوية ما أنها يمكن النظر إليها كبديل مناسب بمقدوره سد الفراغ الناجم عن الانزواء الأمريكي، فضلا عن المتاعب الداخلية لرئيسها الجديد دونالد ترامب الغارق حتى أذنيه فى مشكلات مع مؤسسات وهيئات مهمة فى الدولة ووسائل الإعلام. الإيرانيون أيضا يتملكهم شعور بالزهو الواصل لمرحلة الغرور بظنهم أنهم أصحاب الفضل الأول والأضخم فى القضاء على تنظيم داعش الإرهابى فى سورياوالعراق، وأن الغرب بقيادة الولاياتالمتحدة لم يقدر على تحقيق هذا الإنجاز الكبير رغم تدخله العسكرى وشنه آلاف الغارات الجوية على مواقع وتمركزات داعش فى الأراضى السورية والعراقية. وتتجاهل إيران أن ميلاد داعش فى بلاد الرافدين كان صيحة احتجاج على ممارسات وفظاعات الميليشيات الشيعة العراقية الفائزة بدعمها ومباركتها. الزهو الإيرانى مبعثه أن الميليشيات الشيعية فى سورياوالعراق كانت المسئولة عن اقتحام القرى والمدن الداعشية، وتكبد خسائر بشرية فادحة كان لها أثرها الواضح فى اندحار داعش والمتحالفين معه، وبالطبع لن تجرؤ طهران على الكلام عن الفظائع والانتهاكات التى ارتكبتها ميليشياتها أخيرا بحق المدنيين من السنة، وهى مسجلة بأدق تفاصيلها لدى السلطات العراقية ومنظمات غير حكومية عراقية، وتقارير بعض المنظمات الدولية، فهؤلاء قاتلوا بسند طائفى وليس دفاعا عن أرض أوطان احتلتها جحافل داعش التى ضمت اطيافا من بقاع شتى وحد بينهم نزعة سادية للقتل والتخريب وإخراج أسوأ وأحط ما فى النفس البشرية، فهم كانوا يحاربون إعلاء للمذهب الشيعى ومنع السنة من الانفراد بالمشهد. وذاك أخطر ما فى الأمر، لأن إيران ترسى دعائم نفوذها على أساس عقائدي، وعندها شهية لا تخطئها العين المتابعة لخوض حروب دينية لا تبقى ولا تذر، فهى تناصر الشيعة أينما وجدوا سواء كانوا ظالمين أو مظلومين، ولا تكترث بتدخلها الفج فى الشئون الداخلية للجيران، والبحرين نموذج حى على هذه الحال، وتشجع التطرف والغلو، وكذلك موقفها الداعم لقطر راعية الإرهاب فى أزمتها مع البلدان العربية، وهو ما أوضحته مصر بجلاء فى كلمة مندوبها فى مجلس الأمن السفير عمرو أبو العطا فى التاسع والعشرين من مايو الماضي، وأشار فيها بوضوح إلى أن طهران لا تزال تتدخل فى الشئون الداخلية للدول العربية، وتتعمد تصدير الأفكار التى تذكى الطائفية والإرهاب والتطرف. وعودة إلى تصريح بومبيو الذى كان اعترافًا ضمنيًا بسقوط أمريكا فى الفخ الإيراني، وأنها لا تدرى ماذا عساها تفعل لتقليص نفوذ طهران المستشري، فهو انعكاس لعدم وجود إستراتيجية أمريكية شاملة ومتكاملة للتصدى لإيران وتوغلها، خصوصا فى سوريا التى تحتفظ فيها بقرابة 30 ألف مقاتل جمعتهم من العراق وباكستان وأفغانستان، وإلى جوارهم عناصر الحرس الثورى الإيراني، وما خفى كان أعظم وأبشع. ما يشغلنى ليس أمريكا وما ستفعله مع إيران ولعبة القط والفأر بينهما، وإنما يشغلنى البلدان العربية التى لا تخفى قلقها وتوترها من تداعيات التمدد الإيراني، فهى إن اعتمدت على أمريكا وحدها فلن يزول الخطر المحدق بها ولا بديل أمامها سوى الاعتماد على النفس والتنسيق المشترك. بكلمة أوضح لتفعل ما فعلته مع قطر، فعندها كفايتها من الدلائل على دعم طهران الإرهاب والتطرف وعدم احترام سيادة الدول، فلتوجه لها إنذارًا جماعيًا بالتوقف وتحدد مجموعة من المطالب الواجب عليها تلبيتها خلال مهلة معينة، وعلى العرب منذ البداية أن يكونوا واضحين وضوح الشمس، وأن يعلنوا أنهم لا يعارضون حق إيران فى النفوذ الاقليمى بحكم أنها دولة عريقة صاحبة حضارة وتأثير على المنطقة، وأنه مرحب ببناء نفوذها على معطيات سياسية وثقافية واقتصادية وليس دينية وما دونه مرفوض جملة وتفصيلا، فهذا هو الطريق للخروج من الفخ الإيراني، فليبادر العرب ببناء إستراتيجيتهم الخاصة قبل فوت الأوان. [email protected] لمزيد من مقالات محمد إبراهيم الدسوقي;