بعدما غزا الواقع المصرى ثقافات الإسلام الصحراوى المحمول على أذرع تنظيمات الدين السياسي، بدأت التساؤلات تنهمر عن (البدع)، بدءًا من السلام بعد الصلوات (حرماً وجمعا)، ووصولاً إلى (كحك العيد)!، ليبدأ التصحر فى غزو الواقع المصرى مفرغاً المجتمع من طقس المحبة ومحيلاً الحياة والعبادة إلى برودة تسرى فى الأوصال تُقَطِع ما كان موصولاً، وتُجَمِد ما كان حيوياً، وتخمد ما كان مشتعلاً. لاحظوا أننا نتحدث عن الإنسان المصري، الذى بدأ عمره منذ خمسة آلاف عام قبل ميلاد السيد المسيح وامتد إلى ألفى عام بعده، تعاقب عليه خلالها محتلون كثُرْ، بدءًا بالهكسوس الأشوريين، ثم الفرس فاليونانيين تلاهم الرومان فالبيزنطيين، ثم كان العرب فالعثمانيين الذين تقاطع مع سلطانهم الاحتلال الفرنسى فالبريطاني، مروا جميعاً على الإنسان المصرى ورحلوا لتبقى مصر لأهلها خالصة الانتماء وعريقة الجذور، تحمل ملامحها الأصيلة وبعضاً من ثقافات الغزاة التى استحسنها المصريون واعتبروها غير متناقضة مع موروثهم القديم المتجدد. عاين كاتب هذه السطور حميمية اللقاء الجامع للعائلة نهاية السبعينيات، فى مؤتمر محبة خالص عنوانه ليلة تجهيز كحك العيد، ثم يوم الخبيز، حيث يلتئم شمل نساء العائلة على مدى يومين، يتخللهما مآدب للإفطار والسحور تجمع رجال العائلة وصغارها حول (طبليات) مصرية خالصة، تتبارى على صفحاتها النساء فى استعراض مهارات الطبخ والتباهى ببارعات ضبط مقادير الكحك ودقة النقش على وجهه، لتسود روح مصرية تحيل الإسلام إلى حياة مكونها الرئيس هو الإحساس بالحب . كما عاين كاتب هذه السطور، بداية سريان اتهام المصريين باقتراف جريمة (بدعة الكحك)، حيث كان الحديث فى البداية داخل جحور تنظيمية إخوانية فى البيوت، قبل أن ينتقل بصفقة التعايش بين نظام مبارك وتنظيم الإخوان، إلى مكبرات الصوت فى المساجد، لتملأ أشرطة الإرهابى وجدى غنيم البيوت المصرية وهو يتهم المصريين بارتكاب جريمة البدع لأنهم يصنعون كحك العيد!، كان ذلك فى مرحلة الانتشار أو ما يعرف فى أدبيات التنظيم بالتكوين، وصار السؤال واقعاً فى نقاشات المجتمع المصرى بتضافر جهود السلفيين مع الإخوان، حتى أصبح قطاع عريض من المصريات يشعرن بالحرج الشرعى من ممارسة بدعة صناعة الكحك، وشخصياً شهدت كثيراً من النقاشات للبحث عن حلول شرعية تعفى المرأة المصرية من ارتكاب هذه الخطيئة!، لتبدأ أسئلة الشك فى صحة الإيمان منطلقة من كحك العيد لتصل إلى تجهيل المجتمع تمهيداً لتكفيره وإعلان الجهاد ضده. كان الكحك بدعة فى فترة التكوين التنظيمى المؤهل للتمكين، لكن الأمر اختلف حين توهم التنظيم أنه قد حكم، فنسى قادته ما طرحوه عن بدع الواقع المصرى بدءًا من تحريم الكحك ومروراً بالاختلاط والموسيقى والسفور والخروج على الحاكم، ليبدأ عصر المتاجرة بالخصوصية المصرية التى جرموها ويقيمون أفراناً لصناعة كحك العيد فى تجمعى رابعة والنهضة رمضان 2013!، وليصبح على الوعى المصرى الذى تم تجريمه بتهمة بدعة الكحك أن يتعاطف مع صُنَّاعِه الإخوان كونهم مواطنين مصريين يمارسون فرحة التجهيز للعيد؟. ولا يمكن اعتبار الانتصار لكحك العيد المصرى مجرد رفاهية قول، أو ترف طرح، حيث إن الواقع يؤكد أننا أمة مأزومة، أوطانها هدفاً لمعاول هدم، وإنسانها فى مهب ريح تسعى لاقتلاعه من إنسانيته لتحيله إلى مجرد رقم فى معادلة نظام عالمى مخرجاته الدولار والسلاح وفرض النفوذ وصولاً إلى عالم غير الذى كنا نعرف، إنه (العالم الجديد) الذى بشرت به الإدارة الأمريكية باختلاف رموزها. وفى هكذا حال يصبح من المهم تلمس مواطن الاستدعاء لإنسان الوطن باعتباره عامل المقاومة الأول فى معادلة البقاء، وبقدوم العيد باعتباره من مواسم الذكري، تحين الفرصة لنعود إلى مصر التى كانت، وطناً يبتهج بناسه، ومواطنين يحتفون بانتمائهم، وفرحة تتسع دوائرها لتفرض إيقاعها على الجميع، وديناً لا يؤثم الحياة ولا يرى أن الأصل فى مكوناتها التحريم رغم أن (الأصل فى الأشياء الإباحة). وعبر هكذا طرح يصبح الانتصار للكحك المصري، منصة قفز منه ننطلق إلى الإسلام الذى آمن به أجدادنا المسلمون المصريون، ووثق فيه أجدادنا المسيحيون المصريون، حتى قال مكرم عبيد الباشا الوزير فى إحدى خطبه بعد انضمامه لحزب الوفد (إن مصر ليس وطنًا نعيش فيه بل وطنٌ يعيش فينا ونحن مسلمون وطنًا ونصارى دينًا، اللهم اجعلنا نحن المسلمين لك، وللوطن أنصارًا، اللهم اجعلنا نحن نصارى لك، وللوطن مسلمين). ويتحول الانتصار للكحك المصرى إلى استدعاء لموروث حضارى نبت على صفحة الوطن منذ فجر التاريخ، ونقوشه التى يزينها قرص الشمس لا تزال خالدة على مقبرة الوزير خميرع من الأسرة الثامنة عشرة بطيبة القديمة، إنها ثقافة المصرى التى تؤهله لأن ينفخ فى كل المفردات حوله من روحه ليمنحها الحياة التى تؤهله لمواجهة كل محاولات هدم بنيانه أو اقتلاع جذوره، إنه الإحساس الدافع لأن يتمسك المواطن بوطنه مهما تجبر المتربصون واستحكمت مؤامراتهم، وإنه الإحساس القادر بدفء سريانه على أن يتحد ناراً تصهر كل معاول الاستهداف، نستدعيه عساه يكون الدرع الحامية، ونناجيه (يا فرن: هَدِّى الحَمِيَّة أحسن كَحْكِنا حسّاس، رَقْيّاه عيون سِتِى مَقَادِيرُة كيف نِبْراص، ملبن إيدين ناقشاه خمران محبة وناس،يا فرن عيدنا الجاى .. اطرح صاجين إحساس). إنها الذكرى (الفرض) ونحن نتلمس الطريق صوب تقوية دعائم الوطن حتى يسترد عافيته، ويعود وطناً سيداً وشعباً قائداً. لمزيد من مقالات عبد الجليل الشرنوبى;