لقد سطر النبى صلى الله عليه وسلم بأحرف من نور أول دستور مدنى فى التاريخ، حين قدم يثرب مهاجراً؛ من خلال وثيقة الموادعة بينه وبين اليهود والتى سميت(وثيقة المدينة) والتى فى مجملها كانت النظام الداخلى للدولة الوليدة، وأما النظام الخارجى لهذه الدولة الفتية فقد وضع حين انتزع النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه الاعتراف بهم ككيان له شأنه بدءاً من صلح الحديبية فى أواخر السنة السادسة للهجرة، حيث استمرت قوة المسلمين فى التعاظم وتعاظم معها موقع دولة المدينة حتى تحولت الى نواة صلبة من الصعب تطويقها أو كسرها، وغدت قوة لا يستهان بها، وعلى أثر ذلك بعث الرسول صلى الله عليه وسلم فى أواخر السنة السادسة للهجرة السفراء والمبعوثين إلى سائر حكام الأرض، يدعوهم إلى الإسلام، وهو يتمتَّع بفراسة عظيمة فى اختيار الرجال لتلك المهام، فيختار للوِفادة على الملوك والقياصرة والأكاسرة والحكام والأمراء مَن هم أهل لتلك المهمة من حسن المظهر وفصاحة اللسان وسُرعة البديهة، علاوة على صفات أخرى وهى معرفة السفير بتلك البلاد، أو بلغتهم، أو له علاقات تجارية طيبة معهم. وتقول الدكتورة أميمة أحمد قصار فى كتابها (السياسة والتعامل الدبلوماسى للنبى محمد صلى الله عليه وسلم) :إن من أهم عوامل نجاح المهمات الدبلوماسية معرفة السفير بالمنطقة المسافر إليها وأحوال أهلها الاجتماعية والجغرافية والاقتصادية والسياسية. لقد حافظ رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما كان سائداً فى عصره من معانى الخير والإنسانية فى العلاقات والعهود والمواثيق، وكذلك كانت دبلوماسيته الشريفة فى أسمى معانيها حين يستقبل بعثات الآخرين وهم له مكذبون، ويؤمنهم على حياتهم ومتاعهم ؛ بل وينزلهم ويكرمهم فى دار الضيافة، ويهتم بهم ويشرح لهم رسالة الإسلام، ولا يقبل من أى منهم البقاء عنده ولو أسلموا طالما هم رسل حتى يعودوا فيؤدوا رسالتهم وكذلك أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم لسفرائه ومبعوثيه تمام الصلاحية فى التحدث باسمه وفى إبرام المعاهدات الثنائية. ويقول الباحث المغربى محمد بوبوش:..ولأول مرة فى تاريخ البشرية تتحول مسيرة السفارة ومهمتها إلى هداية ودعوة إلى مبادئ ومثل وقيم، فقد كانت قبل الإسلام علاقات الدول الدبلوماسية مع بعضها مادية محضة أو عاطفية تدخل فى إطار المجاملة، أوفى مهمة إبرام عقد للصلح والسلام أو تجديد ما رث وبلى من معاهدة قديمة.