فى الوقت الذى تغرق فيه أوروبا فى متاهات اقتصادية وتصارع من أجل الحفاظ على كيان الاتحاد الأوروبى المهدد بالانهيار، وفى الوقت الذى تتجه فيه الولاياتالمتحدة نحو التركيزعلى السياسات الداخلية وإعلاء مبدأ «أمريكا أولا»، تتحرك الصين بخطى قوية لمواجهة تغيرات هيكل الاقتصاد العالمى وتراجع النمو، معلنة تصدير نموذجها التنموى إلى العالم من خلال مبادرة طريق الحرير الجديد ، أو ما يسمى بمبادرة «الحزام والطريق». وتهدف تلك المبادرة التى أعلن عنها الرئيس الصينى شى جين بينج عام 2013 لربط آسيا وإفريقيا وأوروبا من خلال شبكة هائلة من الموانيء والسكك الحديدية والطرق التجارية والمجمعات الصناعية إلى جانب إنشاء خطوط أنابيب بترول وغاز طبيعى وطاقة كهربائية وغيرها. وتشمل المبادرة 64 دولة تمثل 43.4٪ من سكان العالم، وتتركز على البنى التحتية فى الدول الأقل نموا خاصة فى إفريقيا، وقد خصص بنك التنمية الصينى 890 مليار دولار لنحو 900 مشروع. ولم يقف الأمر عند حد الإعلان عن خطط مدروسة، فقد انطلقت الصين مسرعة لتنفيذ تلك الخطط حيث أعلنت بكين أن الاستثمارات المباشرة لمؤسساتها فى الدول المشاركة فى الحزام والطريق تجاوزت 60 مليار دولار منذ 2013 وحتى نهاية العام الماضي، وأنشأت المؤسسات الصينية 56 منطقة تعاونية باستثمارات تجاوزت 18 مليار دولار فى معظم تلك الدول بما فى ذلك منطقة التعاون الاقتصادى والتجارى الصينية فى منطقة قناة السويس. وتعد مصر من أهم الدول المحورية فى المبادرة، حيث ارتفع حجم التبادل التجارى بين مصر والصين فى ضوء المبادرة ليصل إلى 11.3 مليار دولار عام 2016، وتحتل مصر المرتبة الثالثة إفريقيا و ال47 عالميا من حيث الشراكة التجارية مع الصين. كما زاد عدد الشركات الصينية العاملة فى مصر من 30 شركة عام 2014 إلى أكثر من 100 شركة حاليا. وكان الرئيس الصينى قد صرح خلال زيارته لمصر لحضور حفل افتتاح المرحلة الثانية من المنطقة الاقتصادية الخاصة الصينية بأن المشروع سيستقطب لمصر أكثر من 100 شركة فى مجالات مثل النسيج والملابس الجاهزة والمعدات البترولية والدراجات النارية والطاقة الشمسية، مما يؤدى إلى إيجاد أكثر من 10 آلاف فرصة عمل لمصر. كما وقع الرئيس عبد الفتاح السيسى ونظيره الصينى مذكرة تفاهم حول التنفيذ المشترك لمبادرة الحزام والطريق. وفى مراسم التوقيع، وقع الزعيمان عددا من اتفاقيات التعاون الأخرى فى مجالات الكهرباء والتجارة والطاقة والثقافة والإعلام وغيرها من الاتفاقيات التى وصلت قيمتها إلى 15 مليار دولار. وتحتل قناة السويس مكانة مهمة فى التعاون بين مصر والصين فى إطار المبادرة مثل منطقة التعاون التجارى الاقتصادى الصينية المصرية الموجودة فى السويس لتحسين القدرة التنافسية الجديدة لمصر، كما تشمل المبادرة التنمية فى قطاعى البترول والغاز الطبيعى المصرى حيث حققت إحدى أكبر شركات تكرير البترول فى الصين إنجازات كبيرة فى مصر بالتعاون مع إحدى الشركات الأمريكية. وتساهم الشركة الصينية فى تجارة البترول الخام وتجديد المصافى وإدخال خدمات المعدات وبناء مصنع للمواد الكيميائية وغيرها. وقد شاركت مصر بوفد وزارى رفيع المستوى فى منتدى الحزام والطريق الذى عقد فى بكين فى مايو الماضي، عرض خلاله الوفد على الشركات الصينية فرصا استثمارية عديدة فى مصر فى جميع المجالات. وقد وصل اهتمام الصين بمصر كوجهة اقتصادية واستثمارية واعدة إلى حد دعوة بكين الرئيس عبد الفتاح السيسى لحضور قمة مجموعة بريكس للاقتصادات الناشئة المقررة فى سبتمبر المقبل فى مدينة شيامين الصينية. والبعض يوجه اتهامات لبكين بأن مبادرتها ومشروعاتها الاقتصادية خارج حدودها هى محاولة منها لفرض الهيمنة الصينية على العالم تحت مسمى العولمة والتعاون الاقتصادى خاصة فى ظل التراجع الغربى عن فكرة العولمة وتزايد الشعبوية والتركيز على الشئون الداخلية فى أوروبا وأمريكا. وخلال زيارة لبكين للمشاركة فى دورة تدريبية للصحفيين من دول إفريقية من بينها مصر، اتهم بعض الصحفيين الأفارقة الصين بأن توسعها الاقتصادى فى الدول الإفريقية هو مجرد جزء من حربها التنافسية مع الولاياتالمتحدة ومحاولة صينية لتأكيد نفسها كقوة عظمى فى مواجهة أمريكا، بل إن البعض منهم ذهب إلى اتهام بكين بمحاولة نشر الأيديولوجيا الشيوعية فى إفريقيا. وما كان من المحاضرين الصينيين الذين كان من بينهم مسئولون حكوميون فى قطاعات مختلفة إلا لتأكيد أن الصين لم تظهر يوما رغبة فى فرض ثقافتها وأيديولوجيتها على غيرها من الدول، وأنها تلتزم دائما بسياسة عدم التدخل التى تتضح جليا فى مختلف القضايا الساخنة فى العالم خاصة فى الشرق الأوسط وإفريقيا، وللتدليل على صحة هذا الطرح، اعترف المسئولون الصينيون أيضا بأن الولاياتالمتحدة ما زالت هى القوة الأكبر فى العالم، ويصعب على الصين منافستها حاليا فى العديد من المجالات. وأكد الصينيون أيضا أن هدفهم الأساسى من التوسع الاقتصادى هو جعل دولتهم أفضل بعد عقود من الفقر والمعاناة والحروب، مؤكدين أن طموحات المارد الصينى لن يكون لها سقف من أجل مزيد من الازدهار والتقدم، بما فى ذلك التوغل فى إفريقيا، لتحقيق مصلحة الطرفين معا.