فى شهر رمضان المبارك، لم أكن أنوى الدخول فى معارك، أو الأخذ والرد. لم أكن أنوى الاشتباك. يشعر المرء أحيانا بالإنهاك. لكن تزايد إحساسى بالاستفزاز قادنى إلى المسارعة بكشف الالتباس.. هذا ما جرى لى مع أغنية «الناس العُزاز»!. الأمر ليس هزلا.. فقد قررت - بسبب الأغنية- الدخول فى هذا الاشتباك.. مع أن الاشتباك هنا يأتى مع «كبير».. وفى شارع المستمعين سيكون مسيرى «عكس اتجاه السير».. لكن لا بأس.. إنه حوار الأفكار الذى ينبغى ألا يغضب أحدا.. لكننى - بصدق- وجدت أنه لا مجال للانتظار.. لأجل الخير.. وقبل أن يترسخ «القبح» فى الوجدان.. فيصبح فنا يجذب الملايين!. لا أعنى ب «القبح» هنا الأغنية فى المجمل.. فالأمر شديد الالتباس.. وهنا مكمن الخطر.. اقرأ واصطبر. أغنية «الناس العُزاز»، هى أغنية التتر لمسلسل «لأعلى سعر»، الذى تقوم ببطولته الفنانة نيللى كريم. وتشدو بالأغنية المطربة نوال الزغبى، من تلحين عمرو مصطفى، وتوزيع موسيقى لأحمد الموجى وأمين نبيل.. وهى بالطبع من كلمات مؤلف المسلسل، الأستاذ الكبير مدحت العدل. وبالأرقام.. فإن الأغنية التى تم بثها على موقع «يوتيوب» لأول مرة، يوم 16 مايو الماضى، حققت حتى يوم أمس الأول؛ الإثنين 5 يونيو، عدد مشاهدات قدّر بمليون و216 ألفا.. ولا يحتاج المرء إلى الأرقام ليعرف أن الأغنية التى تتردد كل يوم فى تتر المسلسل حاليا قد نجحت نجاحا كبيرا.. عرفت ذلك بشكل شخصى من كمّ «الناس العُزاز» على قلبى بالفعل الذين سمعتهم يشيدون إشادات حالمة بالأغنية.. وكم تمنيت ألا يفعلوا.. لذا فقد قررت كتابة هذه الكلمات. الأغنية، التى نناقشها هنا بعيدا عن أحداث المسلسل، لأنها عمل فنى مستقل، بدليل بثها قبل بداية شهر رمضان ب 11 يوما، تبدأ ب «مذهب» قوى فى كلماته، يجذبك منذ اللحظة الأولى، خاصة مع الأداء الممتلئ بالوجد والألم للفنانة نوال الزغبى، والموسيقى الهادئة التى تعكس الوحدة والتأمل وتقتصر على البيانو فقط فى البداية.. تقول الكلمات: «الكل عاش من غيرى.. الكل سابنى ومشى.. حتى اللى كل من خيرى.. لا يخجل ولا يختشى».. من يستطيع أن يقاوم هذه الكلمات؟.. بل هذه الحالة الموسيقية المتكاملة؟.. فمن منا لم يتعرض للخذلان فى حياته؟!. بداية موفقة للغاية إذن.. ثم يحدث التصاعد.. فنسمع: «الغريب لقيته حنّ.. والقريب شيطان وجن.. حاجة تهبل أو تجن.. والمشاعر من إزاز».. فنفهم أن حالة الخذلان التى تحدثنا عنها الأغنية مصدرها هو «القريب» لا «الغريب».. وهذه بالفعل درجة أكبر من مشاعر الألم والأسى.. لأن حجم الفجيعة يتزايد كلما كان سببها شخصا قريبا إلى قلبنا أو من دمنا.. ولكن ماذا نفعل فى هذه الحالة؟!. يطرح علينا المؤلف الدكتور مدحت العدل بعد ذلك مباشرة الحل قائلا فى أغنيته: «ملعون أبو الناس العُزاز.. اللى لما احتجنا ليهم.. طلعوا أندال بامتياز»!. الحل الذى يقدمه الفن هنا إذن.. هو اللعن!. من حقى هنا أن أشتبك فكريا مع الأستاذ الكبير مدحت العدل، الذى نحترمه ونقدر أعماله، التى طالما قدّم من خلالها القيم الراقية والمثل العليا، لكننى هنا أتساءل: «هل فى الفن لعن؟!».. ثم إن الفن الجيد المؤثر، من شأنه أن يفتح الآفاق للمتلقين، فيبنوا فوق الفكرة المقدمة صروحا وأفكارا وربما سلوكا.. وقد فعلت.. وليتنى ما فعلت!. وجدت فى الأفق حالات عديدة فى الحياة، ل «ناس عُزاز»، استبدت بهم الأنانية فخانوا أقرب الناس إليهم. وجدت أن الأخ قد يخون أخاه ويسرقه، والأب قد يطرد ابنه بعد وفاة أمه من منزله، بل وجدت أن الأم قد تخون ابنها وتجلب له العار عبر «المشى البطال».. كل هؤلاء أناس يفترض أن يكونوا من «العُزاز».. لكنهم بالفعل «طلعوا أندال بامتياز».. ولكن - ضع مائة خط تحت (لكن) هنا- هل يمكن برغم ذلك أن نقول لهم: «ملعون أبوكم»؟!. لماذا أحب الناس - لاسيما السيدات- الأغنية إذن؟!.. هنا مصدر الالتباس.. وهو أنها تناقش قضية حقيقية متكررة شديدة الإيلام.. فأغلبنا ربما يكون قد تعرض للخيانة والخذلان من أقرب الناس إليه.. بل وربما قد تمتم البعض بالفعل فى سره لاعنا.. أو تجرأ وراح فى العلن يسبّ ويقذف.. لكن هذا يبقى من قبيل «السلوك الشخصى» المنحرف.. لكنه لا ينبغى أن يكون «فكرة» يتم تقديمها والإلحاح عليها فى عمل فنى يكتبه كاتب كبير.. بل إن صاحب ذلك السلوك الشخصى المنحرف - فى وعينا الشعبى- قد يتراجع عن فعله بعد لحظة انفعاله، فيعود ليقول لمن خذله: «ربنا يسامحك».. أو أن تكون أقصى درجات عقابه له هى: «ربنا يدّيك على قدّ نيتك».. دون أن يدافع عن حقه أبدا - إذا كان سويا- فى أن يقول: «ملعون أبوك»!. أخيرا أتساءل.. ماذا جرى لنا؟.. ماذا جرى لكبارنا وشعبنا؟.. لماذا اختلطت الأمور إلى هذا الحد؟.. لماذا فقدنا الإحساس بالفارق بين القبح والجمال؟.. لماذا لم نعد نميز بين الفن واللعن؟.. لا يا دكتور مدحت.. لن ألعن «الناس العُزاز» أو غيرهم.. أو حتى من أختلف معهم.. سأصبر عليهم وأسامحهم وأتحملهم.. قدر استطاعتى.. ويوم أن أعجز - لأننى بشر- سأطلب الهداية لهم.. وأشكو بثى وحزنى إلى الله.. ولن أزيد. [email protected] لمزيد من مقالات محمد شعير