تحتاج مكتبة الإسكندرية وقد مضى على تأسيسها أكثر من خمسة عشر عاماً إلى نقاش حول الدور المأمول منها سواء فى فلسفته أو برامجه أو آليات عمله. مثل هذا النقاش أمرٌ طبيعى ومطلوب تلجأ إليه المؤسسات الكبرى كل فترة زمنية لتقييم نفسها، ليس فقط بهدف رصد منجزاتها ولكن أيضاً وبصفة أساسية بهدف اكتشاف السلبيات والمعوّقات. هذا شرط لضمان التجديد والتطوير اللازمين لكل مؤسسة. ما يجعل حديث مراجعة دور مكتبة الإسكندرية مطلوباً أن مديرها العام الجديد الدكتور مصطفى الفقى وبرغم أنه استمد نجاحه المهنى بالأساس من داخل المنظومة الرسمية للدولة إلا أنه احتفظ لنفسه دائماً بهامش ثقافى وفكرى حتى تحوّل هذا الهامش إلى دور أصيل وكامل ربما تضاءل امامه عبر السنين نجاحه الوظيفى فأصبح المفكر والمثقف وليس السفير أو مستشار رئيس الجمهورية هو الجانب الأبرز اليوم فى شخصيته. ولهذا استقبل الكثيرون بالترحاب والتفاؤل نبأ توليه مسئولية مكتبة الإسكندرية. فالرجل بطبيعته قادر على رؤية الأمر نفسه من زوايا مختلفة وجديدة، وهذه قدرة تتيح له وتجعلنا نتوقع منه الإضافة والتجديد.ولأنه فى نهاية المطاف ابن المؤسسة الوطنية المصرية حتى وهو يعمل فى المجال الدبلوماسى خارج مصر وبالتالى ليس مديناً لجهة أجنبية بنجاح أو مساندة فالأمل معقود عليه فى إعادة الدور الغائب للمكتبة. وبدايةً فإن مكتبة الإسكندرية قد اضطلعت بدور لا يُنكر بوصفها «مكتبة كبرى» للكتب والوثائق والمخطوطات وما أنشأته من مراكز متخصصة عديدة. وفى ظل أفول دور المكتبات العامة كانت أعداد غفيرة من الزوار تؤم المكتبة يومياً وقد توافر لها مبنى عصرى بإطلالة ساحرة على شاطئ المتوسط حيث الوسائل الحديثة والمريحة الجاذبة للقراء. كذلك لا يمكن إغفال المؤتمرات والندوات التى حرصت المكتبة على تنظيمها إضافةً إلى المعارض والأمسيات الفنية والموسيقية التى جذبت الكثيرين. بالطبع توافر للمكتبة إمكانات كبيرة لوجستية ومالية لم تتوافر لمؤسسة أخرى مشابهة فى مصر، واستفادت المكتبة كثيراً من إطار قانونى وإدارى خاص بها فى التمويل والإنفاق والتوظيف برغم ما أثاره هذا الوضع من تساؤلات ومشكلات وصلت فى فترة ما إلى ساحة القضاء. والأهم أن المكتبة قد حظيت بدعم إعلامى هائل لم تحظ به مؤسسة اخرى فى بر مصر لدرجة أننا لا نكاد نعثر على كتابات نقدية لمسيرة المؤسسة، وهذا بذاته أمر غير صحى ولا مفهوم. فقد كانت إدارة المكتبة لا تكف عن الحديث مثلاً عن الشباب وهم يمثلون بالفعل نسبة كبيرة من قوة العمل بها. وبرغم ذلك فإننا على مدى خمسة عشر عاماً لم نشهد ظهوراً لنخب وكوادر ثقافية شابة فى المكتبة وكأن المطلوب (أو المسموح) هو وجود طبقة موظفين أكفاء لتسيير العمل اليومى فحرمت المكتبة نفسها من توظيف إبداعات ومواهب شبابية من داخلها أو استقطاب المبدعين وكبار الباحثين من الخارج فى هيكلها الوظيفي. تبدو المكتبة اليوم مدعوّة لتطوير العناصر الثلاثة لاستراتيجيتها الثقافية (الرؤية والبرامج وآليات العمل) عنصر الرؤية يجعلنا نتساءل عن الهدف أو الدور الذى تسعى إلى تحقيقه المكتبة. هى بحكم نشأتها فى العصر القديم كانت مكتبة متوسطية تعبر عن خصوصية مصر «الكوزموبوليتية» آنذاك. واليوم ثمة واقع مؤداه أن مصر تبدو أيضاً دولة بجناحين أولهما عربى بحكم دور قومى يستدعيها حتى لو حاولت هى تجاهله لأنه لا أحد بوسعه معاندة مشيئة الجغرافيا والتاريخ والثانى إنسانى يجبرها على التواصل مع حركة التقدم العالمى والانفتاح على ثقافات العالم. ربما كانت المكتبة اليوم بحاجة إلى رؤية تعكس هذين الدورين/الجناحين معاً. ليس معنى هذا أن تتحوّل المكتبة إلى مؤسسة عربية إقليمية أو محلية خالصة أو أن يتراجع انفتاحها الإنساني. ولكنه يعنى أن يُضاف إليها رئة وطنية عربية تتنفس بها ثقافياً بخلاف رئتها المتوسطية والعالمية. وقد كان هذا أحد مظاهر الدور الغائب للمكتبة. ثمة اعتقاد أن «هوى» المكتبة كان غربياً متعالياً على حقيقة أنها مؤسسة عالمية على أرض مصرية هدفها التواصل بين الثقافات. والتواصل بحكم التعريف لا يكون من جانب واحد. لم يكن إنجاز المكتبة برغم إمكاناتها الهائلة ملموساً أو مقنعاً على الصعيدين الوطنى أو العربي. فبدت المكتبة غريبة على 95% من الشعب المصرى واكتست شيئاً فشيئاً بطابع المؤسسات (السياحية) التى يقصدها الناس غالباً بهدف الفضول و«الفرجة» باستثناء بعض المبادرات الجادة مثل «مبادرة الإصلاح العربي» برغم أنه تم هندستها لمآرب أخرى أوجبتها اللحظة آنذاك. كان من الطبيعى أن تنعكس رؤية المكتبة على ما تنظمه من برامج وأنشطة بدت ذات طابع «مخملي» سواء فى قضاياها أو اقتصارها على مشاركة عدد من النخب ورموز الفكر والثقافة دون محاولة لتدوير هذه النخب وتجديد دمائها كما تفعل مؤسسات فكرية وثقافية مشابهة حتى أن بعضها أصبح يخصص فى مؤتمراته نسبة مئوية لأسماء جديدة يتم دعوتها لم يسبق مشاركتها من قبل. كان يمكن للمكتبة بحكم ما تملكه من اسم رنّان وإمكانات كبيرة أن تكون بيتاً لانتاج المعرفة والفكر بخلاف أدوارها الأخرى بإنشاء مركز لأبحاث الثقافة والمعرفة، أو من خلال إصدار سنوى منتظم وطموح بمنهجية بحثية رصينة على غرار تقارير الأممالمتحدة والمؤسسات الدولية على الأقل فى مجالات وقضايا الثقافة والمعرفة وما أكثرها. أتذكر هنا بالمناسبة أننى كنت قد اقترحت على الإدارة السابقة للمكتبة فى لقاء سريع سبق أحد الاجتماعات التى ضمتنا معا أن تتولى المكتبة إصدار تقرير سنوى ضخم ومحكّم يليق بها عن التنمية الثقافية فى مصر أو العالم العربي، لم يكن الاقتراح فيما يبدو جديراً بالاهتمام حتى قُدّر لى أن أنقل الفكرة إلى مؤسسة الفكر العربى حين عملت أميناً عاماً لها. وأصبح هذا التقرير العربى للتنمية الثقافية الذى يصدر سنوياً بانتظام شديد فى ديسمبر من كل عام أحد أنجح المشروعات الثقافية العربية بشهادة الكثيرين، وهو ما كان ليتم دون مؤازرة واقتناع مجلس أمناء مؤسسة الفكر العربى وعلى رأسه الأمير المثقف خالد الفيصل. أتصور أيضاً أن يكون لمؤسسة مثل مكتبة الإسكندرية منتدى سنوى تطلق فيه تقريرها أو كتابها السنوى ليس بالضرورة عن التنمية الثقافية ولكن فى أى مجال آخر مثل حوار الثقافات أو أى قضية تعكس الأبعاد الثلاثة للمكتبة (المصرى والعربى والعالمي) وتمنح فيه المكتبة جائزة سنوية كبرى تحمل اسمها وتليق بمصر تكون مختلفة عن الجوائز الحكومية المصرية فى فلسفتها ومعايير منحها والمجالات التى تُمنح عنها. الحديث عن المكتبة يتجاوز بكثير هذه المساحة لكن باختصار يمكن لمكتبة الإسكندرية أن تصبح بحق أحد مظاهر القوة الناعمة لمصر، والرهان معقود على الدكتور مصطفى الفقي. لمزيد من مقالات د. سليمان عبد المنعم;