وسط مشهد عربى وشرق أوسطى معقد وفوضوى للغاية، عقد مركز البحوث والدراسات الإستراتيجية، التابع للجيش اللبناني، مؤتمره الإقليمى السابع تحت عنوان «تناقضات الصراع والتحول فى الوطن العربي» بهدف التشخيص الجيد للأزمات التى تنهش الجسد العربى على مدى السنوات الست الماضية، والتى أصابته بحالة من الوهن والإعياء غير مسبوقة، وبلورة توصيات جادة حول سبل التعامل الفعال مع هذه الأزمات، على النحو الذى يعيد الاستقرار والأمن للشعوب العربية، ويصون وحدة وسلامة أراضيها. وقد انتهت مناقشات المشاركين الذى تجاوز عددهم مائة مشارك من 20 دولة تمثل القوى العربية والإقليمية والدولية الفاعلة والمعنية بقضايا المنطقة ومستقبلها إلى مجموعة من النتائج : أولاها، عمق التحديات التى يواجهها العالم العربي، وتشعبها وتعقدها نتيجة التداخل الشديد بين صراع القوى والسلطة فى الداخل، مع صراع النفوذ الدولى والإقليمي، والتقاطعات بينهما فى استقطابات حادة ومواجهات دموية مسلحة لم يشهدها العالم العربى من قبل. ويظل الإرهاب هو التحدى الأخطر والأكثر إلحاحا باعتباره يستهدف كيان الدول العربية ذاته، وبنيتها الثقافية والحضارية التى طالما كانت الدرع التى يتحصن بها العرب فى مواجهة العدوان والغزو الخارجي، ليطل علينا شبح التفتيت والتفكك ويتوارى حلم الوحدة العربية، ويتقزم إلى محاولات مستميتة للدفاع عن الدولة الوطنية فى سوريا وليبيا واليمن وغيرها من الدول العربية التى تمزقها الحروب والنزعات الطائفية والقبلية، وتتربص بها أطماع بعض القوى الدولية والإقليمية. ثانيتها، أن التعامل العسكرى والأمنى مع هذه التحديات ضرورة ملحة، ويبرز فى هذا السياق أهمية تعزيز قدرات الجيوش العربية الوطنية التى تحارب الارهاب على أراضيها، وفى مقدمتها الجيش اللبناني، وتطوير جاهزيتها لمواجهة التطور النوعى فى أنماط الحروب وما يطلق عليه الحرب الإلكترونية التى تشنها الجماعات الإرهابية لتستهدف الشرايين المعلوماتية للجيوش العربية. ثالثتها، من الضرورى دعم وتأصيل دولة المواطنة، والتركيز ثقافيا وإعلاميا على فكرة المواطنة دفاعاعن الوحدة الوطنية ورفض التمييز بين مواطنى الدولة على أى أساس كان، والسعى الحثيث مع وسائل الإعلام العربية لبلورة ثقافة مدنية بعيدا عن التحريض الفئوى فى إطار استراتيجية اعلامية عربية، وبما يحقق صمود البنية المجتمعية والعمل على إقامة الدولة العربية الحديثة فى إطار الانفتاح على العالم والتمسّك بالقيم الوطنية والعربية. ومن المُلح فى هذا الإطار الارتقاء بالخطاب الدينى الى مستوى المسئولية الوطنية، وإشاعة الخطاب التنويرى الذى يسمح بتجاوز التعصب وعدم إثارة النعرات الطائفية أو المذهبية أو السياسية وترسيخ ثقافة التسامح وقبول الآخر، وإعادة النظر فى المناهج التربوية والتعليمية بهدف تعميق مفهوم المواطنة وثقافة الاختلاف. رابعتها، إن الإصلاح الهيكلى لجامعة الدول العربية صار ضرورة لدعم قدراتها على مواجهة التحديات السابقة وممارسة دور فاعل ومؤثر فى حماية العالم العربى من الأمواج العاتية التى ترتطم به. فمن المهم دعم وتعزيز جهود جامعة الدول العربية التى تظل بيت العرب والمعبر عن إرادتهم الجماعية رغم كل ما تواجهه من تحديات. وإعطاء مضمون فعلى للهوية العربية الجامعة من خلال تعزيز التضامن العربى والمصالح العربية المشتركة، والدفع نحو بلورة إستراتيجيات عربية مشتركة فى جميع المجالات التى تهمّ المواطن العربى والبيت العربي. والقيام بمبادرات فى إطار الدبلوماسية الاستباقية والوقائية للعمل على احتواء الخلافات العربية ومنع تأجّجها وبناء الجسور المهيئة لمناخات تسمح بتسويتها. يصاحب ذلك تطوير نظام إقليمى يحترم القانون الدولي، ووحدة الدول المعنيّة، ويحقق التعاون والتكامل الوظيفى الاقتصادى والاجتماعى بمعزل عن النزاعات السياسية بين الحكومات. وأخيرا، إن تحليلا لمواقف القوى الدولية يوضح أن روسيا، هى أكثرها دعماً للأمن القومى العربي، والعمل العربى المشترك، وكما فضحت موسكو اتفاقيات سايكس بيكو للشريف حسين والعرب منذ مائة عام، فإنها ضد إسقاط النظم الشرعية فى المنطقة، وترفض أى صفقات أو مقايضات أو سايكس بيكو جديدة تفتت العالم العربى والكيانات العربية الكبري، وهو ما أكده سفيرها فى لبنان، ألكسندر زاسيبكين، خلال كلمته الافتتاحية بالمؤتمر، وهى تدعم وقف الفتن الطائفية والمذهبية ودفع التسوية السلمية لكل بؤر التوتر، انطلاقا من أن الحل ليس فى تغيير الحدود وإنما فى العودة إلى طاولة المفاوضات لتسوية الخلافات القائمة. لقد أدهشنى عمق التحليلات والمستوى التنظمى العالي، ومستوى المشاركة رفيع المستوي، والدفء الذى كان يحتضن الجميع رغم اختلاف الرؤى والآراء. ونظل فى انتظار الصحوة العربية المأمولة التى تدخل توصيات المؤتمر الجادة إلى أرض الواقع لنخرج جميعا إلى نور الاستقرار والأمن والتنمية الاقتصادية والمجتمعية الشاملة. لمزيد من مقالات د.نورهان الشيخ;