مرة أخرى، لعلها تكون الأخيرة، يضربنا الإرهاب الأسود بقسوة لا متناهية، لينال منا أكثر من ثلاثين روحا غالية، ونفسا عزيزة، على الله ربنا جميعا، وعلى وطننا الذى يضمنا معا. حدث ذلك رغم قانون الطوارئ الذى تم فرضه قبل أسابيع عقب تفجير كنيستى طنطا والإسكندرية، وحدث أيضا رغم التوافق العربى الأمريكى على المواجهة المشتركة للإرهاب، وحدث كذلك بعد أقل من يومين على وقوع حادثة مدينة مانشيستر فى قلب الجزيرة البريطانية، بعد أن طالت عديد المدن على الشاطئ الآخر للمتوسط، بعشرات الحوادث المشابهة فى باريس وميونخ وبروكسيل. لا يعكس هذا الإرهاب المعولم تطرفا دينيا لدى المسلمين، بقدر ما يمثل مصبا لروافد احتجاجية عديدة لدى طيف هائل من البشر، على غياب الحرية أو شيوع الفقر أو فقدان المعنى، ولنزعات عبثية لدى مهووسين جنسيا، وفوضويين أخلاقيين ومرضى نفسيين يُسقطون عقدهم على الآخرين، ويبحثون عن خلاص مأساوى من حياة بلا مغزى. بينما تكشف قدرته على التوغل والانتشار عن تلك العلاقة الآثمة بين الإرهاب والتكنولوجيا، والتى جعلت من التحديث المتسارع، طريقا إلى العنف لا الحرية، كما تقول نظريات التحديث التقليدية، خصوصا فى مجتمعاتنا التى بدأت صيرورة تحديثها من الهوامش التكنولوجية، من دون قناعة بالمتون المعرفية والفلسفية المؤسسة لها، أو صلة تذكر مع فضيلة الحرية السياسية التى أحاطت بها. ومن ثم لم يعد غريبا أن تجد شخصا متزمتا، يرفض العالم ويكره الآخرين، يرتدى جلبابا قصيرا وبنطالا طويلا مع ذقن متمددة على الصدر، سرعان ما تنقلك إلى زمن بعيد مضى، أو إلى جغرافية قصية لعلها جبال تورا بورا فى أفغانستان. ولكنه فى الوقت نفسه يحمل لاب توب، موصولا بالشبكة العنكبوتية، مع تليفون محمول بالغ التقدم، يمارس من خلالهما أكثر تطبيقات الاتصالية فعالية وخطورة، وكأنه مواطن ألمانى أو سويسرى، وذلك من دون أن يشعر الرجل بأى تناقض. فإذا ما استحال إرهابيا، تعين علينا تصور ما الذى يمكن أن تستخدم فيه تلك التقنية الهائلة. لم يعد فشل عالمنا فى مواجهة الإرهاب بحاجة إلى تدليل، بقدر الحاجة إلى تفسير فى ظل التمدد المشهود لقوى ظلامية يفترض أنها محدودة العدد والإمكانيات، فى مواجهة دول كبيرة وقوى عالمية. تفسيرنا هو افتقادها جميعا إلى الاتساق الأخلاقى الضرورى لتلك المواجهة، فطالما استمر بعض العرب أو المسلمين فى نفاق الإرهاب وتبريره. أو استمرت المعايير المزدوجة لدى الغرب بممارسة العلمانية السياسية الصارمة لديه، ولكن من دون ممانعة فى توظيف الدين سياسيا، طالما كان ذلك فى مجتمعاتنا نحن، سواء جماعاتيا مثلما جرى من احتضان للإخوان المسلمين، أو طائفيا مثلما حدث فى العراق لأكثر من عشر سنوات على نحو أنتج المظلومية السنية، وأفضى إلى الظاهرة الداعشية. أو استمر البعض الثالث من الدول يسلك وكأن الإرهاب بعيد عنه قياسا إلى الآخرين، ومن ثم فإن مسئولية الآخرين عنه أكثر من مسئوليته هو، فسوف تبقى لدى الإرهاب تلك القدرة الفائقة على التمدد والانتشار مثل ورم خبيث أو مرض وبائى مزمن يتغلغل فى أجسادنا. وهكذا تبدو موجة الإرهاب الراهنة أقرب إلى عالم السياسة منها إلى فضاء الدين، بمعنى أنها تتأسس على ذرائع عملية ومطالبات سياسية مباشرة أكثر منها على التطرف الدينى كإرهاب الثمانينيات والتسعينيات، فإرهابيو اليوم لم يقرأوا كتاب معالم فى الطريق لسيد قطب، ولا الفريضة الغائبة لعبد السلام فرج، على سبيل المثال، ولا تحركهم مواقف اعتقادية صلبة على نحو ما كان، بل تحركهم نزعات عبث ورغبات احتجاج ونوازع تمرد، تتغطى بقشرة معرفة دينية تنغمس فى وسائط تواصل داعشية جاهزة لتلبية حاجات أطياف واسعة من متمردين وعابثين ومحتجين. ففى مجتمع توارت فيه الثقافة، وصارت فيه الفنون مبتذلة تروج لبطل أسطورى يقتات على أشكال مختلفة من البلطجة ومقاومة السلطة والخروج على الأعراف والقوانين، لابد أن تذبل أرواح الناس وتتخلف أذواقهم. ولأن المجتمع غالبا ما يصبغ متمرديه بصبغته، كانت ظلامية سيد قطب والمودودى معادلا لاستنارة العقاد وطه حسين، وكانت فريضة عبد السلام فرج نقيضا لأولاد حارة نجيب محفوظ، فالمجتمع المستنير آنذاك كان يجبر العابثون على انتهاج طرق صعبة لتبرير عبثهم، أما المجتمع السطحى الآن فلا يحتاج العابثين فيه إلى بذل جهد كبير فى فهم الموروث القديم ولا التمسح بفقه متشدد، فمثلما يتلقى العموم جذور ثقافتهم من وسائط التواصل، يتلقى هو روافد عبثه منه، سطحية بسطحية، وخواء مقابل خواء. هنا لابد من طرح مطلب الإصلاح السياسى مع الدينى، بل قبله، فنحن أحوج ما نكون إلى دولة يقظة، حاضرة فى حياة المواطن على سبيل الإلهام والقيادة.. دولة تركز كل الجهد والطاقة فى مواجهة الإرهاب جمعا للمعلومات، وتخطيطا للعمليات، واستباقا للتحركات. ولهذا نثمن توجه الرئيس السيسى إلى ضرب معاقل داعش فى ليبيا، على سبيل ردع الإرهابيين وصناعة الهيبة الوطنية، كما نثمن توجه وزير الداخلية إلى فتح تحقيق مع القيادات الأمنية المعنية بتأمين الطرق إلى دير الأنبا صموئيل، حيث وقع الحادث المؤلم، فتلك هى البداية الجادة للإصلاح. [email protected] لمزيد من مقالات صلاح سالم;