لا يبدو أن هذه المرة مثل سابقاتها. في عام 2014 أراد الخليجيون أن يجروا أذن قطر فحسب. اليوم ثمة قرار بمعاقبتها. الفارق أن القرار هذه المرة ليس خليجيا فقط. الأمريكيون علي ما يبدو وصلوا إلي اقتناع بضرورة رسم خط أحمر أمام قطر، ومنعها من تخطيه. في أدبيات السياسة الخارجية الأمريكية ثمة دول مارقة يجب محاسبتها وتحجيم نفوذها. هذه الدول هي مراكز لزعزعة الاستقرار الإقليمي والدولي لسببين: أولهما أنها غالبا ما تحمل أجندات سياسية تقوم علي اضطراب المياه المستقرة في محيطها، والثاني هو أن هذه الدول غالبا ما تكون تحت حكم أنظمة راديكالية أو متطرفة. من إيران إلي كوريا الشمالية إلي فنزويلا إلي قطر، الفروق طفيفة للغاية. كوريا الشماليةوفنزويلا واقعتان تحت مظلة راديكالية من الأفكار الشيوعية واليسارية المنتهية الصلاحية. إيرانوقطر واقعتان تحت حكم تشدد إسلامي شيعي، يقابله تشدد إسلامي سني. في السابق كان الفارق بين هاتين الدولتين جوهريا. في قطر الحكم العائلي والطبيعة القبلية للمجتمع كانت لاتزال قائمة، وفي إيران طبقة رجال الدين المتشددين هي من يتحكم في أغلب المؤسسات الأمنية والعسكرية والاقتصادية، بإشراف المرشد الأعلي. اليوم توغل الإسلام السياسي في جوهر الحكم في قطر قلبه، رأسا علي عقب. لم تعد المسألة سياسية، ولم يعد تنظيم الإخوان المسلمين أداة خارجية لتحقيق النفوذ، أو صورة من صور سعي الدولة الهامشية الصغيرة إلي الترقي والوصول إلي حجم وتأثير الدول الكبري في المنطقة. صرنا أمام دولة تحول الإخوان فيها، تنظيميا وأيديولوجيا، إلي جوهر الحكم ونظرته لنفسه وللعالم. هذا ما تقوله تسريبات أمير قطر الشيخ تميم بن حمد. هذه دولة المتناقضات الذاتية والخارجية معا. في الداخل مثلا تقدم الشيخة موزة المسند والدة الأمير، التي تتمتع بنفوذ هائل علي المجتمع القطري، نفسها باعتبارها نموذجا لتحرر المرأة الخليجية المثقفة والمنفتحة، شكلا ومضمونا. في نفس الوقت تجد الداعية المتشدد يوسف القرضاوي، منظر الإخوان ومحيي الفكر الجهادي في أدبياتهم، يتمتع بنفوذ مقابل علي الدولة والمجتمع معا. الصورة تبدو مستنسخة بطريقة القص واللصق عند الحديث عن سياسة قطر الخارجية. في سوريا تجدها تدعم بوضوح جبهة النصرة (تنظيم القاعدة)، سياسيا وإعلاميا وماليا، وفي نفس الوقت يعتبر الشيخ تميم حزب الله اللبناني الشيعي «حزب مقاومة». نفس الشيء في فلسطين. دعم هائل لحركة حماس في قطاع غزة، وفي نفس الوقت «التواصل مع إسرائيل مستمر». في اليمن كانت قطر هي من حول قوات حزب الإصلاح الإخواني بقيادة علي محسن صالح الأحمر إلي أن تصبح القلب والمحرك لقوات الشرعية المدعومة من التحالف العربي، وقبل أن يصبح الإخوان سببا في توقف القتال تماما عند مدينة تعز، وسببا أساسيا في الفشل في معارك إستراتيجية أخري. لكن لم يمنع هذا من أن يقول الأمير تميم إن إيران، الداعم الأول والوحيد لميليشيا الحوثي، هي «ضامنة الاستقرار في المنطقة»! هذه التناقضات مقصودة. عقيدة قطر الخارجية تقوم علي محاولة إقناع الأمريكيين دائما بأنها قادرة علي التأثير علي أي جبهة، وفي كل مكان. تقديم الخدمات علي الأرض في ملفات عدة هي وظيفة الدول التي ارتضت لنفسها أن تقف في صف السماسرة. الأمر يشبه عمل شركات الأمن الخاصة التي يطلب منها الذهاب إلي إحدي مناطق الصراع الساخنة لإنهاء مهمة ما. قطر هي شركة عائلية كبيرة لديها موارد نفط وغاز. خذ مثلا هذه التناقضات وطبقها علي الفصائل والميليشيات والأحزاب والتنظيمات التي تلعب دورا مهما في دول عربية تعصف بها النزاعات. ستجد أن قطر تذهب في دعمها أو تحالفها إلي أكثر التنظيمات تطرفا من الاتجاهين. في سوريا مثلا، لا تُعرف قطر بأنها من كبار الداعمين للفصائل المدنية في الجيش السوري الحر. قطر تتعامل فقط مع جبهة النصرة والفصائل التي تحمل فكر داعش أو القاعدة، وفي نفس الوقت لا مشكلة لديها من الاتصال بحزب الله. لا يوجد وسط عند هذه الدولة العجيبة. معضلة قطر ليست في المنطقة. المشكلة الكبري بالنسبة للقطريين صارت في واشنطن. ثمة إدارة جديدة لم تعد تري في التطرف الذي تبيعه قطر سلعة مفيدة. شغل الفهلوة والسير علي كل الحبال وعرض الخدمات مقابل الحماية لم يعد مقنعا لدي دونالد ترامب ومساعديه. ثمة حديث في الكونجرس الأمريكي عن فرض عقوبات علي قطر باعتبارها دولة داعمة للإرهاب. سلوك السياسيين الأمريكيين يعكس أن قطر مقبلة علي أكثر الأيام سوادا في تاريخها القصير. هذه دولة تحول فيها التطرف إلي ثقافة وهوية. في الخطاب الديني والخطاب السياسي والخطاب الإعلامي والمشروع الذي يحدد رؤية مستقبل المنطقة. هذه الرؤية تقوم مثلا علي أن «تحتفظ قطر بعلاقات قوية مع الولاياتالمتحدةوإيران في وقت واحد»، وأن «قاعدة العديد تحمينا من أطماع بعض الدول المجاورة»، كما جاء في تسريبات الشيخ تميم. إذا كانت إيران ضامنة للاستقرار من وجهة نظر قطر، التي تريد أن تحتفظ معها بعلاقات قوية، فمن المقصود بالدول المجاورة التي لها أطماع غير السعودية؟ عقلية الاستنجاد بإسرائيل والولاياتالمتحدة في مواجهة دول عربية أخري هي تكرار لسيناريو عام 1995 عندما حما عملاء أمريكيون بالتنسيق مع إسرائيل انقلاب الأمير الوالد الشيخ حمد بن خليفه علي والده، ضد تدخلات دول عربية كانت تعارض هذا الإنقلاب. قبلها بثلاثة أعوام استنجدت قطر أيضا بالأمريكيين ضد السعودية خلال المناوشات العسكرية التي وقعت بين الجانبين، وانتهت بسيطرة السعودية علي منطقة الخفوس. المشكلة أن المسئولين القطريين مازالوا في حالة إنكار لهذه التصريحات، التي تعكس بدقة سياسة قطر وتحركاتها المعلنة. انظر مثلا إلي تغطية قناة الجزيرة للسياسة المصرية منذ الإطاحة بحكم الإخوان. لا هم للجزيرة سوي إثارة الرأي العام الداخلي في مصر، ودعم الإرهابيين والمتشددين في سيناء والوادي معا. في الملفين السوري والليبي، الجزيرة عمليا لا تفعل شيئا سوي تقديم غطاء إعلامي واسع للتكفيريين، والعمل ليلا ونهارا علي منحهم شرعية ثورية. كفي يعني كفي. من الخليج ومصر مرورا بأوروبا حتي الولاياتالمتحدة، لم تعد هناك مساحة لأي أوهام في التعامل مع قطر. أيام الملك عبدالله بن عبدالعزيز سحبت السعودية والإمارات والبحرين سفراءها في الدوحة. اليوم لم يعد لهذه الخطوة معني مقارنة ب«إستراتيجية العقاب» التي ستواجهها قطر في الأيام المقبلة. لمزيد من مقالات أحمد أبودوح;