كنا على كوبرى قصر النيل متجهين إلى الجيزة، وكانت إعلانات المسلسلات قد علت الأعمدة، ومن بينها إعلان يحمل صورة، أبيض وأسود وغير فنية، لرجل يرتدى طربوشا. ويحمل الإعلان جملة واحدة، «طلعت حرب راجع». اتجه إلى المهندس زوج ابنتى سائلا «هو ده مسلسل؟» اجبته «لا ده إعلان عن توجه جديد لبنك مصر». سألنى «بجد؟» أجبته «هكذا عرفت». بعد ذلك انتشر الإعلان على كبارى القاهرة وبدأ البعض منا ينتظر مشروع بنك مصر الذى يحمل اشارات تعيد إلينا الأمل الذى زرعه الاقتصادى العظيم مع بدايات القرن الماضى عندما خاض معركة وطنية اقتصادية كبري. والذى ننتظره من بنك مصر الآن أن يستوعب معنا جميعا فكر طلعت حرب فى معركته التى خاضها بلا سند حكومى ولا آخر سياسي. خاض معركته الوطنية ومعه الشعب المصرى والبعض من الصفوة المالية والسياسية المتنوعة الأديان والانتماءات الاجتماعية. كان يخوض المعركة ضد الاستعمار ومع وجود حكومات مصرية مترددة وفى واقع اجتماعى متخلف. الذى نعيه جميعا أن طلعت حرب كان يمتلك مشروعا مصريا اقتصاديا متكاملا يبدأ بالصناعة ليضم مشروعات خدمية وفنية وتجارية كانت مصر فى احتياج لها. بدأ الاقتصادى العظيم بمصنع مصر المحلة للغزل والنسيج ليترك البنك مجبرا عام 1939 وقد أسس 17 شركة ناجحة تحمل اسم مصر وتتخصص فى 17 مجالا اقتصاديا يحمل مصر كلها إلى مرحلة التحديث الصناعي. وبسبب مشروع طلعت حرب عرفت مصر اولا بنك مصرى واول شركة تأمين مصرية كما عرفت اول شركة الطيران وكذلك اول ستوديو سينمائيا يخدم صناعة السينما ثم شركة بيع المصنوعات المصرية ليبيع فيها المنتجات المصرية التى ترفض المتاجر الكبيرة التى يملكها الأجانب المتمصرون عرضها او بيعها و. و. والمهم انه عرف ان البلد، الذى هو مصر، لن يطوره الا ابناؤه. ولم تكن معركة سهلة فى مجتمع يحكمه مستعمر وطبقة ملاك ارض ومعهم اجانب يملكون امتيازات اجنبية تعطيهم كل حريات التصرف الاقتصادى والقانونى فى بلد غالبيته من الفلاحين الذين لم يعرفوا الآلة ولا الانتاج الصناعى الكبير. ولأنه كان رجلا ذكيا فقد بنى مشروعه الصناعى الأول على مساحة 13 فدانا معتمدا على زراعات القطن السائدة التى تحيطه وفى قرية صغيرة، المحلة، وسط الدلتا يعمل اهلها على انوال خشبية لينتجوا نسيج الحرير والملايات والاقمشة الشعبية. بالإضافة انها تقع فى منطقة تتمتع برطوبة المناخ المطلوب لعمليات الغزل والنسيج ومحاطة بمحيط هائل من العمالة الزراعية التى تعمل موسميا فى الزراعة او بالسخرة فى موسم الفيضان، بمعنى فى محيط من فقراء الريف. كلها ظروف لم نعد نعرفها الآن. فالزمان لم يعد الزمان القديم. لقد تغيرت الدنيا عما كانت عليه فى عشرينيات القرن الماضي. مصر الآن دولة مستقلة وتمتلك تجربتها الصناعية والعمالية. لقد تعلم وتعرف الشعب المصرى على فنون وعلاقات إنتاج لم يكن يعرفها فى القديم. بنى الكبارى والسدود وأنتج الحديد والصلب والنسيج الفاخر والمشروبات اللذيذة وحلقت نساؤه بطائرات تجارية. عرف الشعب الصناعة، ويملك تجاربه الصغيرة فى تطوير الزراعة ولم يعد يشغله استكمال بناء كليات جامعة فؤاد الأول وإنما بات لديه عشرات الجامعات فى أقاليمه. وبات الآن يوجد منظمات دولية ومحلية وضعت معايير تراجع كل خطوات الانتاج. وهى معايير وقيم لابد من احترامها. فى الفترة من 1959 إلى 1964 استمر عامل نسيج من محافظة الغربية يكتب كتابا عن تجربته فى العمل فى مصنع المحلة بدءا من عام 1928 عندما كان فى الحادية عشرة من عمره. كان هذا العامل واسمه فكرى الخولى من اوائل العمال الذين التحقوا بالمصنع. كتب تجربته فى سجن المحاريق فى مدينة الخارجة فى الوادى الجديد حينما كان معتقلا مع رفاقه من اليساريين. استمر يكتب ذكرياته على الوريقات المهربة الى داخل المعتقل ليعيد تهريبها الى خارجه لتصدر فى النهاية فى رواية «الرحلة» عام 2015. ويرسم فكرى الخولى لوحة مدققة لحال القرية التى تتغير مع دخول الصناعة ويصف حال المصنع الجديد الذى يوظف وينتج ويدفع أجورا ويحقق أرباحا بلا ادارة وبلا نظام، مجرد مشرف يمسك «خرزانة» ليضرب بها كل من يستسلم للنوم. ثم يتحدث عن العمال خاصة الاطفال منهم الذين يعملون فى ورديتين، الاولى من السابعة صباحا للثامنة مساء والثانية من الثامنة مساء للسابعة صباحا مقابل قرش ونصف قرش يوميا. يروى بالتفاصيل التضحيات التى قدمها العمال خاصة صغارهم عندما كان يأكلهم «السير» الذى يدير حركة الآلات فيموت منهم الواحد بعد الآخر. وهؤلاء الآخرون الذين يصابون بأمراض الصدر نتيجة لعملهم مع القطن وما يتطاير منه من تلوث. يوضح لنا الكتاب كيف أن ظروف نشأة الصناعة هى هى فى كل البلدان. تماما كما رواها تشارلز ديكنز فى «اوليفر تويست» وكما سجلها فريدريك أنجلز فى «حال الطبقة العاملة الانجليزية». وهى تماما كما يرويها فكرى الخولى فى «الرحلة». الفارق ان الكاتبين الاولين من ابناء «الخوجات» اما عمنا فكرى الخولى فهو من معدمى الارض من كفر حما مركز طنطا. ولد فى عام 1917 ومات ابوه عامل البناء قبل بلوغه الشهر الثالث من عمره ثم ربته امه العاملة الزراعية التى تنظف «الزرايب» وتساعد فى جنى المحاصيل. وفى بداية عام 1928 خرج من الكتاب، حيث كان يدرس، ليرى جمهرة من اهل القرية وقد وقف رجل فى الوسط يقول،» يا اهل كفر حما، احنا جينا عشان نتكلم معاكم، بنك مصر عمل مصنع يغزل القطن اللى انتم بتزرعوه ويعمل منه قماش اللى انتم بتلبسوه. . كنا زمان بنزرع القطن لياخذه منا الانجليز. . احنا النهاردة بنزرع القطن وحنحوله إلى قماش، إحنا اللى حنزرع القطن وحنغزله وحننسجه عشان يبقى كل شيء من مصر. . صناعة وطنية، ابعتوا بأبنائكم عشان يتعلموا صنعة، ولما حيتعلموا حياخذوا اجر كويس». ثم وعدهم بالرجوع فى الاسبوع التالى ومعه عربة لتشحن الابناء الراغبين فى العمل فى المصنع. وهكذا كان يتم شحن العمالة الفلاحية غير المدربة للعمل امام آلتين واحدة للغزل والثانية للنسج. أما كاتبنا فقد رفضت والدته ان ترسله فى سيارة «الشحن» فهرب، وهو فى الحادية عشرة من عمره، وسار على قدميه إلى طنطا ومنها إلى المحلة حيث يوجد المصنع. ويصف الكاتب تلك القرية الهادئة التى لم تكن مستعدة لاستقبال الأفواج من هذه الاعداد من فقراء الريف ليتحولوا الى عمال صناعيين. يشرح عملية الاستغلال المزدوج من المصنع ومن اصحاب المساكن ومن الاحتكاكات اللفظية التى كانت تصدر ضدهم من الأهالي. وكيف كان العمال الصبية يعيشون على «زوادة» الخبز و»غموس» مخلل الباذنجان والطماطم ويغسلون ملابسهم فى البحر «النيل» لينتظروا عرايا حتى تجف ثم يرتدونها. يصف الغرف المكتظة بالثلاثين عامل صبى ليناموا فيها ويمسك كل عامل منهم ب «الزوادة» حتى لا تختلط بأخري. الخلاصة ان نشأة الصناعة فى هذا الزمان كانت بنضال طلعت حرب ومعه كل عامل زراعى معدم تقدم للعمل على الآلة التى كان لا يعرفها ويخاف منها وفى احيان كان يكرهها وهى تلتهم زميله. ننتظر برنامج «طلعت حرب راجع» ولكن فى ظروف وطنية واجتماعية مختلفة تماما. لمزيد من مقالات أمينة شفيق