سقطت، فى الأيام الأخيرة، أقنعة كثيرة، وترسخت مواقف مصر الحاسمة أمام العالم كله، فى حربها، دفاعا عن المنطقة والعالم، ضد الإرهاب ومن أجل البناء والإعمار والسلام. لم تكن مصر فى حاجة إلى اختبار حتى تظهر أصالة وصلابة معدنها.. ولكنها كانت فى حاجة إلى إعلان مواقفها أمام العالم، بعد أن اختلطت أوراق المشهدين الإقليمى والدولى على مدى سنوات وارتدى الممولون للإرهاب ثياب الحملان وجلسوا يهزون رءوسهم ويصدقون على كلام قادة كبار فى محفل إقليمى ودولى كبير، وهم يتحدثون عن ضرورة استئصال الإرهاب فى الشرق الأوسط والعالم. كلمة رئيس مصر، يوم الأحد الماضي، أمام قمة الرياض - والتى دعا إليها العاهل السعودى الملك سلمان بن عبد العزيز، رئيس الولاياتالمتحدة ورؤساء خمسين دولة عربية وإسلامية - كانت تعبيرا عن الكرامة الوطنية، وعن مواقف شجاعة لرئيس الدولة، الذى أثبت، مرارا، أنه يدافع عن رؤية صلبة ومتماسكة بشأن مواجهة أسوأ أنواع الخطر الذى يتهدد العالم، وهو خطر الإرهاب بيد الإنسان ضد البشر جميعا .. خطر يضرب الإنسانية فى مقتل، وتحركه أطراف تضمر الشر وتخطط لحروب الكراهية والدمار، وهى فى دعمها لقوى الإرهاب فى الشرق الأوسط وصلت إلى الدرك الأسفل فى السنوات الأخيرة! تعلقت أنظار المصريين بشاشات التليفزيون بمجرد أن بدأ الرئيس عبد الفتاح السيسى كلمته، وجاءت ردود الأفعال من كل التيارات والأطياف السياسية «هذا خطاب يمثلنا».... فبكل إباء وشمم وكرامة تحدث الرئيس عن وسطية واعتدال بلده، وكونها رمز التنوير على مر العصور. تضمنت الكلمة بوضوح إعلان موقف واضح وقوى وحاسم من قضايا عديدة، وشعر كل مصرى باستقلال الكلمة، وعدم تبعية بلدهم لأحد.... قامات المصريين ارتفعت أكثر وهم يرون رئيس بلدهم يرد الصاع صاعين للجماعات الإرهابية، ومن يدعمهم سياسيا وماليا، ويعلن أن الإرادة الشعبية الجارفة فى 30 يونيو قد فرضت نفسها، وهى الكلمات التى هدأت مشاعر ملتهبة ونفوسا مكلومة، نالها ما نالها من صناع الفوضى والتخريب وداعمى الجماعة الإرهابية فى السنوات التى أعقبت الثورة الشعبية فى عام 2013... وقد كان الرئيس السيسي، فى كل كلمة، ولفتة خلال القمة العربية-الإسلامية-الأمريكية على قدر حجم مصر وعلى قدر مسئولية ما يحمله على عاتقه من هموم وطن وأمة تكابد لدرء الخطر.. مواقف رئيس تظهر قوة مصر الناعمة المؤثرة بصدق ودون استعراض.. مواقف تقول إن من يتقول على وطنية وإخلاص قيادة مصر لا يعرفون معدن الرجال.. القضية الفلسطينية.. أعادها السيسى للواجهة بتأكيده أنها قضية العرب الأولى .. سوريا.. رفض التقسيم ورفض فكرة دويلات طائفية، أو تحويل أقاليم إلى دول.. دعم الجيوش الوطنية باعتبارها هدف المؤامرة.. رفض مذهبة الخلافات السياسية.. أيضا.. مثلما قال الرئيس عبد الفتاح السيسي، قبل يومين، رداً علي تصريحات غير مسئولة: مصر «تمارس سياسة شريفة في زمن عز فيه الشرف».. مصر دولة رشيدة تحترم نفسها، وتحترم الآخرين ولها وجه واحد. مصر تتعامل مع أي أزمة بالحوار، وتحترم نفسها، وتمد يدها فقط للتعاون والبناء والتنمية. مصر لديها سياسة ثابتة لا تتغير، وتستند إلى عدد من الثوابت، منها عدم التدخل في شئون الآخرين مصر لا تتآمر، ولا تقوم بإجراءات خسيسة ضد أحد، ولا تدير سياسة مزدوجة. مصر لن تغير من سياستها مهما تكن التحديات، وتقف على أرض صلبة بصلابة ووحدة المصريين.
كلمة السيسي في الرياض حملت عمقاً أبعد مما جاء فيها ظاهريا، فهي تعبير عن إستراتيجية مصر ورؤيتها للمنطقة.. فمصر تشارك في إعادة صياغة المنطقة والنظام العربي، الذي يترنح منذ عقود.. فنحن أمام عالم مختلف، ورئيس أمريكي مختلف عما سبقه من الرؤساء في العقدين الماضيين، ويمكن البناء علي علاقة التفاهم معه.. تدشين علاقة جديدة مع رئيس أمريكي جديد، وضعت نهاية لحقبة مضطربة وأعلنت عن فشل مشروع باراك أوباما وأدواته للمنطقة .. فهناك مشروع جديد يجب التعامل معه دون تأخير.. والسيسي ربما هو الزعيم العربي الوحيد الذي درس وفهم مبكرا أفكار الرئيس الأمريكي الجديد، وقطع شوطا في التقارب معه، حتي قبل وصوله إلى البيت الأبيض، وقد جاءت أفكاره، المتقاربة مع الرؤية المصرية للتعامل الشامل مع قضية الإرهاب، قريبة جدا من تصوراته عن كيفية التصدي للظاهرة الخطيرة ومن ثم عادت العلاقات الإستراتيجية المصرية-الأمريكية إلي عافيتها من جديد بعد أن كانت قد مرت بفترة من التوتر السياسي علي مدي قرابة عشر سنوات، باستثناء فترة حكم جماعة الإخوان الإرهابية، التي وجد فيها «نشطاء» الإدارة الأمريكية السابقة شريكا في صياغة شرق أوسط جديد، يقوم علي تمكين الجماعات الدينية علي حساب القوي المعتدلة والليبرالية والتيارات الوسطية في المجتمعات العربية، تطبيقا لأفكار مغلوطة عن مكانة الدين في المجتمع! اتصالا بذلك: هناك تطور في تغيير هيكل القوي الإقليمية.. فدور مصر يبرز من جديد منذ 1991.. المقصود هنا موقف مصر «المركزي».. من أي تحرك دولي في المنطقة... فالتحرك العربي والدولي في 1991 لتحرير الكويت، لم يكن ليظهر لولا موقف مصر. البعض يحاول أن يصور العلاقة بين مصر والسعودية وفق نظرية الصراع بين دول متراجعة (مصر) ودول صاعدة في أدوارها (السعودية).. وهذا تحليل غير دقيق.. فالسعودية لها دورها.. ومصر كذلك دورها في صعود.. وتري أهمية «التكامل» وليس «الصراع» بشأن التعامل مع أوضاع الإقليم.. مصر تحشد قواها من جديد: التسليح الجديد المتطور دور الأزهر في تصويب الخطاب الديني- الحفاظ علي الدولة وتثبيت أركانها، التصدي للإرهاب، تفعيل قوة مصر الناعمة . بالرغم من أن البعض يبالغ في تقدير أدواره إلا أن هذا لايزعجنا.. فكل دور عربي كبير يصب في مصلحة الأمة هو إضافة.. ولا ينتقص من أحد.. لأن أحدا لا يستطيع أن يحل محل أحد.. موقف مصر ثابت وترفض مذهبة الخلافات السياسية، فلن نستبدل حروبا مذهبية بالإرهاب. ومن ثم، مصر ترفض قيام دول على أساس عرقى أو طائفى أو استقلال أقاليم في المنطقة العربية. نحن أبناء الجغرافيا.. ونرفض التقسيم على أساس طائفى أو عرقى أو مذهبى.. هذا النهج لن يدمر المنطقة فقط، سيدمرها أولاً، ثم يلتفت إلي إشاعة الفوضي في العالم. مصر لن تشارك فى أحلاف.. والقوة الوحيدة التى يمكن أن تشارك مصر فيها هى القوة العربية المشتركة لدعم الأمن القومى العربى.. ومصر تنسق بالفعل أمنيا مع دول عربية وغربية فى مواجهة الإرهاب على المستوى الثنائى.. أما التحالفات الأخرى فهى وقتية مرتبطة بقضايا محددة. حل النزاعات بالمنطقة يمثل أولوية دائما، وعلى أساس الحق والعدل والمرونة من جميع الأطراف.. فليست هناك خيارات صفرية تقصي طرفا لمصلحة طرف أو أطراف أخري.. السياسة الخارجية المصرية تدرس وتطور «وتراجع» فى إطار وضع إقليمى جديد (أو وضع إقليمى جديد فى طور التشكيل)، فنحن نمر بأوضاع دولية وإقليمية شديدة الصعوبة. والأرجح هو الاتجاه نحو حرب كبيرة ضد الإرهاب، والتوصل إلي تسويات نهائية للصراعات، وتحديد الأولويات وفق التحديات الداخلية والإقليمية. ربما من «الآثار الإيجابية» لسلبيات ما سمى «الربيع العربى» أنها أعادت اكتشاف مصر وإحياءها بعد موات. فقد كان (25 يناير 2011) إعلان وفاة نظام استمر 40 عاماً) ومصر الآن تؤسس بمشروعاتها في الداخل وبمواقفها من قضايا الإقليم وبنهاية أدوار أطراف إقليمية استخدمت الدين غطاء سياسيا للحقبة المصرية التى تواكب المتغيرات فى العالم، وليس كما يتصور البعض بالارتداد للماضى- أي للحقبة الناصرية.. حيث تصيغ سياستها على أساس واقعى وبوعى كامل وحقائق القوة والمخاطر والتحديات، وليس على أساس أوهام أو مبالغات أو شعارات. فهناك خطورة من الاندفاع فى مواجهات، أو الانزلاق فى مواجهات ضارة غير مطلوبة أو ضرورية. ومواقفنا من الدول تقوم على أساس المصالح والسلام والاستقرار والأمن والتعاون لمصلحة الشعوب، وليس من منطلق المنافسة والتهديد والصدام. فلابد من وقف للحروب بالوكالة التى تشهدها بعض دول المنطقة.. ولابد من موقف واضح من الدول الداعمة والممولة للتطرف وللإرهاب والمعروفة بالاسم دون مواربة. وتثبت أحداث الأيام القليلة الماضية، أن الدخل القومى والغنى لا يصنعان أدوارا، ولكن يمكن أن يخلقا مصالح مشتركة أو متبادلة. فالدور القيادى يتأتى من «السياسة الرشيدة». لمزيد من مقالات محمد عبدالهادى علام