أخذت نفسا عميقا بألم شديد، وكأنني أنزع شوكة من حلقي، فقد أدركت أخيرا أن النجاح لا يقودنا فقط إلى الفرح.. ولا يعلمنا البهجة والفخر فحسب، بل يقودنا إلى نعمة خفية، فهو يفتح أعيننا على حقيقة مشاعر الآخرين حولنا، فيمكن لأي منا أن يتوهم أنه محبوب من الجميع، فإذا حاول أثناء صعوده أن يراقب الآخرين سيواجه الواقع الصعب، ليعرف انه يسبح فى نهر عاصف. هذا ما حدث معي أثناء مشاركتي فى الدورة ال 49 التي نظمها اتحاد الصحفيين الأفارقة بالقاهرة، والتي شارك فيها 18 صحفيا من مختلف البلدان الأفريقية، بالإضافة إلى 8 صحفيين مصريين، والتي تأتى تزامنا مع الاحتفال باليوم العالمي لأفريقيا، وهو اليوم الذي تأسست به منظمة الوحدة الإفريقية عام 1963، والتي تم تغييرها إلى الاتحاد الإفريقي عام 2002، مسافات طويلة وتفاصيل أطول تفصلني عما شاهدته وسمعته من الصحفيين الأفارقة عن مشاعرهم تجاه مصر، خاصة بعدما رأيت فى نظاراتهم عتاب لمصر، وهنا قررت أقفز فوق حيرتي من البحث عن اسئلتى «الحلزونية» عن هذا العتاب اكتشفت إهمال القاهرة لهم خاصة فى فترة ما قبل ثورة 25 يناير. ..................................................................................... .ففي بداية الدورة شعرت بأن الصحفيين الأفارقة ينظرون لنا بشيء من الحدة وكأن لديهم أفكارا جعلتهم يبنون بينا وبينهم جدارا نفسيا معقدا لا يرغبون في اجتيازه ولكن تدريجيا وبعدما سعينا « مجموعة الصحفيين المصريين» نجحنا في تحطيم وكسر هذا الحاجز النفسي .. وأدركنا جيدا ان من يقطع نحوهم خطوه قطعوا نحوه أشواطا، فمجرد ابتسامتنا في وجوههم والانتباه لحديثهم كان يجعلهم في قمة السعادة ويرغبون في المزيد من الحديث.. ومن هنا ترسخت لدى أنهم حقا شعوب نقية السريرة .. فهم حقا أصحاب البشرة السمراء والقلوب البيضاء. ومع تبادل أطراف الحديث معهم ومخالطتهم لا أنكر انبهاري بعقولهم وثقافتهم ووعيهم، وإلي أي مدى هم شغوفون بمعرفة الكثير عن مصر، وعودتها مرة أخرى لأخذ مكانها الطبيعي فى القارة السمراء، والتي فى انتظار عودتها لممارسة دورها الريادي والكبير، خاصة وان هناك قوى حاولت استغلال غياب مصر عن القارة الإفريقية فى ال 30 سنة الأخيرة. وقد ضع اتحاد الصحفيين الأفارقة برنامجا مليئا بالمحطات التي لا تقل أحداهم أهمية عن الأخرى سواء بالزيارات التي قاموا بها لعدة هيئات ومعالم سياحية كقناة السويس، ومكتبة الإسكندرية، والقرية الذكية، والهيئة المصرية للنايل سات، ومدينة الإنتاج الإعلامي، والمتحف المصري، ومؤسسات صحفية والجامعة الأمريكية وغيرها.. إلي جانب المحاضرات التي شارك بها العديد من الشخصيات المصرية السياسية المهمة التي كانت علي اتصال مباشر بعدد من الدول الإفريقية من خلال عملهم كسفراء بها ودراساتهم عنها، أو من خلال بعض رجال الأعمال الذين لهم استثمارات اقتصادية بها، والذين تحدثوا عن خبراتهم وأفكارهم بمشاركة الحاضرين، والذين اجمعوا ان دول القارة غنية بالموارد الاقتصادية إلي جانب ما لديها من ثروة بشرية كبيرة، لكن هناك دولا خارج القارة تحاول استغلال النزاعات المسلحة والحروب الأهلية، للاستيلاء على مواردها بأبخس الأثمان، وبعد إعادة تصنيعها يتم إعادتها وبيعها لهم بأموال باهظة فتزداد دول القارة فقرا وتزداد دول الغرب غني. قناة السويس أبهرت الأفارقة أما عن زيارة الوفد لقناة السويس ومكتبة الإسكندرية .. فلن أنسي مطلقا نظراتهم التى اختلطت ما بين الإعجاب والانبهار أثناء مشاهدتهم الفيلم الوثائقي الذي عرض بقاعة هيئة الاستعلامات بقناة السويس وذهولهم بتكاتف المصريين إلي هذا الحد، وكيف أنه منذ أن طرحت الفكرة خرجوا مهرولين ليسهموا في بناء القناة الجديدة والمشاركة في نهضة بلادهم، كما أبهرهم الوقت الوجيز الذي تم انجازها به، كما وصف بعضهم حفل القناة بالأسطوري متمنين أن تتم مثل تلك المشروعات في بلادهم، كما أعلنوا عن دهشتهم للإمكانيات المتطورة التي تمتلكها مكتبة الإسكندرية والطراز الذي بنيت عليه ومقتنياتها. وخلال زياراتهم لمؤسسة الاهرام ووكالة انباء الشرق الاوسط ، عبروا عن رغباتهم في تبادل البعثات الصحفية وحاجة الصحفيين الأفارقة لثقل مهاراتهم والتدرب علي ممارسة مختلف فنون العمل الصحفي والاعلامي في مصر، كما أعلن عددا منهم رغبتهم في التعاون مع المؤسسات الصحفية المصرية بأن يكونوا مراسلون لها في بلادهم. وأكد الصحفيون الأفارقة أن وسائل التواصل الاجتماعي رغم تأثيرها الايجابى على بلادهم، خاصة وأنها سهلت التواصل بين أبناء القارة وتبادل الخبرات بشكل مباشر بينهم، إلا أن لها تأثير سلبي عليهم يأتي من خلال الاخبار غير الصحيحة والشائعات التى تنشر فيها، ودورها في اثارة الفتن واشعال الحروب الاهلية بين أبناء الوطن الواحد. وفي اليوم الأخير للدورة جاءت كلمة الختام التي القاها ممثل دولة غانا بالنيابة عن زملائه ، والذى قدم الشكر فيها للحكومة المصرية واتحاد الصحفيين علي الجهد المبذول، خاصة بعد الاستفادة الكبير التي حصلوا عليها في الدورة .مشيدا بقدرة المصريين علي تحدي الظروف والصعاب مثلما حدث في مشروع قناة السويس وابهارهم العالم بهذا الانجاز الكبير. وفي نهاية الدورة رأيت الحزن في أعينهم لمجىء موعد رحيلهم عن مصر إلا أنهم عبروا عن سعادتهم لما لاقوه من ترحاب واهتمام وحسن الضيافة، وأنهم سينقلون خبراتهم في مصر لدولهم، وسيسعون لتصحيح اي مفاهيم خاطئة عنها أو عن المصريين، مؤكدين أن مصر كانت ومازالت وستظل رائدة لهم. لذلك يجب على الدولة التوسع فى مثل هذه الدورات ، خاصة أنها تسهم فى تحسين بعض الأشياء المغلوطة عن مصر تجاه أفريقيا. مصر إفريقيا كان الرئيس الراحل جمال عبد الناصر يدرك جيدا مدى أهمية وفائدة الدبلوماسية الناعمة نحو الدول الأفريقية، والذي كان له دور كبير فى دعم حركات الاستقلال الأفريقية، حيث قام بمساندة ودعم حركات التحرر فى أفريقيا سياسيا ودبلوماسيا وماديا، مما جعل بعضهم يطلقون عليه لقب «أبو إفريقيا»، لكن بوفاة عبد الناصر لم تعد العلاقة مع أفريقيا بنفس قوتها السابقة، وظلت الفجوة تتسع خاصة مع تجاهل الحكومات المصرية دبلوماسيتها الناعمة تجاه أشقائها في القارة السمراء .. وما ان أدركت الدولة المصرية أهمية علاقاتها الإفريقية وجهت الكثير من الاهتمام نحوها خلال السنوات الأخيرة وسريعا ما استعادت مكانتها في القارة السمراء وعادت إلى عضوية الاتحاد الأفريقي بعد تجميدها لعدة أشهر، كما حصلت على ثقة الدول الأفريقية، الذين ساندوها للفوز بعضوية مجلس الأمن الدولي لعامين، وكذلك عضوية مجلس السلم والأمن الأفريقي لمقعد الثلاث سنوات بتأييد 47 دولة من دول الاتحاد الإفريقي. وحتى تستعيد قوتها في إفريقيا يجب أن تتضافر الجهود الرسمية والشعبية من أجل ذلك، ليس سياسيا فقط، بل للفنون والموسيقي دور مهم في تبادل الثقافات، فالولايات المتحدةالأمريكية غزت العالم من خلال هوليوود وغزتها الهند من خلال بوليوود، وهو ما تفعله حاليا تركيا من خلال مسلسلاتها وأفلامها، فالدول الإفريقية يجب أن تتخذ الخطوات الأولي لإيجاد الهوية الإفريقية من خلال الفن، ويمكن لمصر اتخاذ خطوات نحو فتح المزيد من القنوات الفضائية باللغتين الإنجليزية والفرنسية لتصل لتلك البلدان، بالإضافة الى ذلك يجب ان تكون هناك وكالات إخبارية وإعلامية لتغطية أخبار القارة، من خلال وسائل الإعلام المقروءة والمرئية، وإرسال مراسلين لتغطية الأحداث بمهنية وحرفية إلي جانب التركيز علي البعثات المتبادلة بين تلك البلدان للتواصل بشكل مباشر، خاصة ان معظم دول أفريقيا تحصل علي أخبارها من الوكالات الناطقة بالفرنسية وبالانجليزية، وهذه الوكالات غالبا تابعة لبعض الدول الغربية والتى تسعي لتصدير المشهد الذي يصب في مصلحتها ويخدم أجنداتها فقط..