عملية مكافحة التطرف لم تعد مشكلة تهم بلدا بعينه، بل أصبحت هما عاما في كثير من الدول، التي تبحث عن سبل مختلفة للتخلص منه وتوابعه، وخلعه من عقول كثير من المواطنين، قبل أن يتحول إلى إرهاب فعلي وقنابل موقوتة تنفجر في وجوه الجميع. في زيارتي لإندونيسيا قبل أيام، وجدت بلدا مختلفا عن الذي رأيته منذ عامين، فقد بدأت تتصاعد المخاوف من انهيار النموذج المتسامح الذي عُرف به هذا البلد، أو ما يسمى في بعض الأدبيات «الإسلام الإندونيسي»، بعد تنامي دور الجماعات المتطرفة، وتشعب الكثير من المتشددين في قاع المجتمع، وهو ما يقلق الحكومة هناك، خوفا على وحدة البلاد التي تقوم على تركيبة اجتماعية معقدة، تتكون من عرقيات متنوعة وتتحدث لهجات مختلفة. عندما عرضت دراستي عن التطرف والإرهاب في مصر، في المؤتمر الدولي الذي عقد في جاكرتا تحت عنوان «الجغرافيا السياسية تتغير في عام 2017»، وجدت ترحيبا من نخب ومسئولين، لم أنتبه في البداية لأسبابه، لكن اكتشفت أن البحث الذي قدمته بدا لهم كأنه يتحدث عن إندونيسيا. وهو ما أعاد إلى أذهان البعض حالة من الحنين إلى الماضي، حيث كانت العلاقات بين القاهرةوجاكرتا في أوج تطورها السياسي، في مؤتمر باندونج عام 1955، الذي شهد بزوغ نجم حركة عدم الانحياز، التي قامت على أكتاف الرئيسين جمال عبدالناصر وأحمد سوكارنو. الشجون التي أثارها البحث امتدت إلى الحاضر، عندما علم كثيرون أن الدور الذي تقوم به مصر حاليا في مجال مكافحة التطرف والإرهاب يبدو قريبا مما تقوم به الحكومة الإندونيسية حاليا، مع مراعاة أن الأخيرة تتحرك وسط واقع اجتماعي متشابك للغاية، وتتعامل مع أحزاب وجمعيات إسلامية تتمتع بشرعية سياسية وحضور واضح في البرلمان، وقلة تتحرك في الظلام لم تعدم تمديد خيوط التواصل مع سياسيين داخل البرلمان وخارجه. القلق الذي يساور المسئولين هناك لم يعد خافيا، لأن انتشار التطرف يهدد النموذج الإندونيسي القائم على التعدد واحترام الآخر، وعبرت المظاهرات التي خرجت في فبراير الماضي في جاكرتا ضد محافظها المسيحي باسوكي تجاهاجا بورناما، عن مخاطر تجاوز التسامح التقليدي، لأن الإسلاميين استغلوا كلاما للرجل قال فيه إن إلزام المواطنين باختيار حاكم مسلم «تفسير خاطئ». هذه الحالة ضاعفت من الشعور بالقلق السياسي، لأنه من الممكن تكرارها من جانب الأحزاب والجماعات الإسلامية عندما تصطدم مصالحها مع أي حزب أو شخصية تختلف معها، خاصة أنها بدأت تنتبه إلى أهمية الحشد الجماهيري في الشارع لكبح التصرفات الرسمية التي تسعى إلى تضييق الخناق عليها، اعتمادا على دغدغة العاطفة الإسلامية لدى قطاع كبير من المواطنين، الذي يمثلون نحو 85 بالمائة من تعداد السكان البالغ نحو260 مليون نسمة. كلام البعض من المسئولين كان مثيرا بالنسبة لي، لأنهم تحدثوا بصراحة واستفاضة عما يجري في بلدهم، فقد أصدر مجلس العلماء الإندونيسي أخيرا فتوى بتكفير داعش وأنها ليست من الإسلام، وتم حل حزب التحرير الإسلامي السلفي، وهناك ترتيبات تجري لتعديل بعض القوانين الخاصة بمكافحة الإرهاب، والبحث عن سبل سياسية لعدم تعطيلها من قبل نواب الأحزاب الإسلامية، وأبرزهم حزب التفويض الوطني وحزب الصحوة الوطنية وحزب الرفاه والعدالة (إخوان) وحزب التنمية المتحدة، ولدى هؤلاء نحو 34 بالمائة من أعضاء البرلمان. السياسة التي تسير عليها الحكومة تمر عبر طرق متوازية، فهناك حركة واسعة لتعديل حزمة من القوانين لسد المنافذ أمام المتشددين وأعوانهم ممن يعتبرون أنفسهم «رمزا للاعتدال الإسلامي»، وتعقب مصادر تمويل الحركات الإرهابية، وتعزيز وحدة مكافحة الإرهاب بالتعاون مع دول الجوار، في مقدمتها الفلبين، وحماية الأفراد الذين يتعرضون لأفكار تحض على التطرف، وعدم الاعتداد بسياسة إعادة تأهيل الإرهابيين، فقد أثبتت التجربة أنها فاشلة، لأن معظم من تم تأهيلهم عادوا إلى أفكارهم المتشددة السابقة. المنهج الذي يتم العمل به يشمل أيضا، حركة واسعة لمنع تشعب الحركات التي تقوم بتدريس علوم الدين، وتشديد الرقابة على الجماعات التي تتلقى دعما خارجيا، فقد تبين أن هؤلاء نواة لنثر بذور التطرف، أو على الأقل الأفراد الذين يتلقون العلوم الدينية عن طريقهم هم عُرضة للتحول إلى التشدد أكثر من غيرهم. وهو ما فرض زيادة وتيرة التحركات لسد الثغرات التي تستغلها جماعات متباينة من خلال توسيع جرعة العلوم المدنية، وتشجيع التيارات الإسلامية الصوفية التي لديها عشرات الملايين من المؤيدين والمناصرين، مثل المحمدية ونهضة العلماء، على المساعدة في القيام بمهمة التعليم الديني الوسطي لتوفير الحماية اللازمة وفقا للنموذج المتسامح والمعروف في إندونيسيا. من هنا يجري التنسيق بين الوزارات المعنية بالشئون الأمنية والدينية والتعليم والثقافة والإعلام، لتوفير آليات جيدة للوقاية مبكرا، قبل أن ينتشر غول التطرف والإرهاب في عموم البلاد، فمن يساعدون هذا الشبح لن يتوانوا لحظة في استثمار البيئة التي أصبحت أكثر استعدادا للتشدد، وهو ما جعل الحكومة تتحرك بحسم وعزم، لأن حدوث خلل كبير في بنية المجتمع، يهدد وحدة البلاد الممتدة في جنوب شرق آسيا، وشواطئها البحرية المترامية الأطراف، وتتشكل من آلاف الجزر وتحيط بها تحديات جسيمة. لذلك شدد لوهوت بنسار الوزير المنسق للشئون البحرية، وهي وزارة رئيسية، في افتتاح مؤتمر جاكرتا على تأكيد الدور الاجتماعي الذي تقوم به القوات المسلحة الإندونيسية، من خلال قيامها بالمساعدة في البنية الأساسية وتطوير عديد من القرى والمناطق المهمشة في مختلف أنحاء البلاد، كما أنها تساعد الجهات المحلية في الجوانب التقنية للتنمية، مثل تطهير الأراضي الزراعة وبناء مناطق تجمعات المياه، لافتا إلى أنها وظيفة جديدة تُسند للقوات المسلحة، فضلا عن مهمتها الرئيسية في الدفاع عن حدود إقليم الدولة الإندونيسية. الغرض من هذا الدور، تضييق مساحة الفقر، الذي يعتبر أهم الأبواب التي يتسلل منها التطرف والإرهاب، وقطع الطريق على المتشددين الذين يريدون أن تكون إندونيسيا ملاذا آمنا لهم في المستقبل. لمزيد من مقالات محمد أبو الفضل