نحن ندرس التاريخ ونبحث عن قوانين تتحكم فى مساره، وندرس المجتمع وتشكل الكيانات الجماعية والتفاعل بينها، كما ندرس الاقتصاد وقوانين العرض والطلب وتراكم رأس المال، فلماذا لا ندرس أيضا الأفكار وطرق تكونها وتطورها؟ كان هذا هو السؤال الذى طرحه المفكر الفرنسى ديستوت دى تراسى، فأسس من أجل ذلك علم الأفكار أو الأيديولوجيا. هذا المصطلح شاع وانتشر فى الخطاب الفكرى المعاصر، وأصبح محملاً بدلالات عديدة ومتنوعة. ويعود هذا الانتشار إلى الاهتمام الذى وجهه له الفيلسوف الإلمانى كارل ماركس. واكتسب المصطلح لديه دلالات متنوعة ولكن كلها سلبية. فهو فى نظره تعبير مشوه عن الواقع، أو قناع يخفى الواقع الحقيقى، أو وعى زائف يخفى عن الانسان جهله، المهم أنه فى النهاية يشير إلى مجموعة من الأفكار يعتقد قائلها بصحتها لكنها تعبير خاطئ عن الواقع. فقائلها لا يتعمد الكذب، ولكن أحكامه، رغم ذلك، غير صحيحة. وتتسلل الأيديولوجيا إلى أذهاننا بصيغ مختلفة تكون فى الغالب غير واعية وخارجة عن إرادة الفرد، ويحدد ماركس لها الآليات الآتية: أولاً: عرض ما هو تاريخى بوصفه طبيعىا وعقلىا، وبالتالى يتسم بالدوام والاستمرارية. فالتطور التاريخى يفرض على الإنسان نظم حكم وقوانين وقيما أخلاقية محددة. هذه النظم تكون لازمة فى فترة معينة ثم يتجاوزها التاريخ. ولكن الأيديولوجيا تقدمها باعتبارها شيئاً ضروريا وطبيعيا وأزليا. فقد اعتبر أرسطو أن النظام العبودى نظام فرضته الطبيعة على الإنسان بصرف النظر عن بلده وثقافته، وبالتالى أى مخالفة له هى خروج عن الطبيعة، وبالطريقة نفسها اعتبر آدم سميث النظام الرأسمالى هو التعبير الوحيد عن العقلانية فى الاقتصاد وما يخالفه من نظم غير عقلانى وضار بالإنسان. ثانيا: تقديم المصلحة الشخصية فى صورة مصلحة عامة. فكل مواطن بحسب موقعه الاجتماعى ودوره فى الإنتاج تتشكل له مصالح معينة، ولكنه حينما يتحدث عنها فإنه يقدمها فى صورة المصلحة العامة ويظهر بمظهر الشخص المنزه عن الغرض والذى يبغى فقط مصلحة الوطن. فرجل الأعمال يرى دائما أن تحرير التصدير والاستيراد، أو تخفيف الضرائب هو أمر مفيد للمصلحة العامة. والأستاذ الجامعى ينادى دائما بضرورة الاهتمام بالعلماء وبالبحث العلمى. وطبقا لجان بول سارتر كان فلاسفة التنوير مثل فولتير وروسو وديدرو يكثرون الحديث عن الإنسان، وفى الواقع كان الإنسان عندهم هو البرجوازى، وبالتالى كانت أفكارهم هى دفاع عن مصلحة البرجوازية فى نضالها ضد الإقطاع والحكم الدينى، وليس عن مصالح الجماهير الشعبية. ثالثا: التعبير عن الرغبات بوصفها وقائع، وهو أمر يدخل فى باب علم النفس الجمعى. حيث إن كثرة الإحباطات والتطلعات المجهضة تدفع المجموعات إلى البحث عن انتصارات زائفة.. فالألمان فى القرن التاسع عشر كانوا يعتقدون أنهم أمة عظيمة، ولكنهم كانوا ينظرون إلى انجلترا وفرنسا وقد حققتا امبراطوريات استعمارية كبرى، وغمرت السلع التى تنتجها صناعتهما كل أسواق العالم، أما الألمان فلم تكن لديهم مستعمرات وكانت الصناعة لديهم، فى ذلك الوقت متخلفة. ولهذا اعتبروا الأفكار التى ينتجها فلاسفتهم مثل كانط وهيجل أفكاراً عالمية، وأن هؤلاء الفلاسفة يفكرون للبشر أجمعين، وتصوروا أن الأفكار يمكنها أن تصبح عالمية، وأن تحل محل السلع. الأيديولوجيا إذن ليست هى الحقيقة ولكنها فى نفس الوقت ليست كذباً قصدياً. كما أن مروج الأيديولوجيا قد يكون متلاعبا بالآخرين، كما أنه فى نفس الوقت قد يكون ضحية. ويكفى أن ننظر إلى من يتحملون معاناة قاسية وتضحيات هائلة بسبب أيديولوجيا يعتقدون بصدقها، إنهم ضحايا الوعى الزائف. بالطبع نشعر أننا بصورة أو بأخرى واقعون فى براثن الأيديولوجيا التى تتسلل إلى فكرنا رغما عنا. فهل من سبيل للتحرر من الأيديولوجيا؟ يشير ماركس إلى نمطين من الفكر خاليين من الأيديولوجيا. النمط الأول هو العلم الذى ينتج نظريات لتفسير الظواهر قابلة للتحقق من صحتها فيعبر لنا بذلك عن حقيقة الواقع، وبهذا المعنى لن يكون وعيا زائفا بل وعى حقيقى. النمط الثانى هو النقد، وهو لا ينتج حقائق ولا يولد معارف، ولكنه يشير إلى مواطن الخلل فى الاعتقادات والتصورات الشائعة، ولهذا يعد النقد شرطا لكل تنوير. بهذا التحليل للأيديولوجيا يمكن لنا أن نتجنب الخداع المضمر فى أقوال الآخرين، كما يمكن لنا - وهذا هو الأهم- أن نخضع أفكارنا ومعتقداتنا الخاصة للنقد الذاتى ونتخلى عن وعينا الزائف. لمزيد من مقالات د.انور مغيث;