أعترف للقارئ بأنى كلما وجدت مقالا بعنوان «تجديد الفكر الديني» أو بعنوان قريب من ذلك، لم أشعر بدافع قوى لقراءته، لا لأنى راض عن حالة الفكر الدينى السائد حاليا فى مصر، لكن لأنى لا أظن أن الإصلاح يأتى عن مثل هذا الطريق، وكأن الاختلافات بين الناس ومواقفهم يتم حسمها عن طريق صراع فكر بفكر، أو كلام بكلام مع تجاهل العوامل التى سببت المشكلة فى الأصل. أعترف بأننى ليس لدى ثقة كبيرة فى جدوى المواعظ بصفة عامة، فى تغيير السلوك الإنساني، قد يبدو أحيانا أن للمواعظ مثل هذا الأثر، وقد يتظاهر الجالسون للاستماع للموعظة باقتناعهم وعزمهم على العمل بها، لكن سرعان ما نكتشف استمرار سلوكهم على ما كان عليه، مادامت الموعظة لم تقترن بعوامل أخرى تؤدى إلى التغيير المنشود، بل وما أكثر ما يتبين أن إيجاد هذه العوامل كاف وحده للوصول إلى النتيجة المرجوة حتى فى غياب أى موعظة. تفسير ذلك فيما أظن أن عقل الإنسان ليس المحرك الرئيسى للسلوك فى معظم الأحوال، بل يتحرك الإنسان مدفوعا بعواطفه ورغباته وطموحاته، قد يستخدم الحجج المنطقية لتفسير التغير فى سلوكه، لكن هذه الحجج ليست فى معظم الأحوال إلا زوائد غير ضرورية تقدم لتبرير ما انعقد عليه العزم لاسباب ضعيفة الصلة بالمنطق. يجب أن نعترف بأن الفكر الدينى ليس استثناء من ذلك، أى أن الذى يحكمه ليس المنطق المجرد بل ميول الإنسان واستعداده النفسي، فإذا كان الأمر كذلك فإن تغيير الفكر الدينى أو ما يسمى تجديده، لايكون بتقديم الحجج المضادة للحجج السائدة بل بتغير الميول والاستعداد النفسي، وهذا التغير يأتى فى العادة ليس بالمناقشة، ومصارعة الحجة بالحجة، بل بوضع الإنسان فى ظروف اجتماعية ونفسية مختلفة تؤدى إلى قناعات مختلفة أو تساعد على نشوء هذه القناعات الجديدة نحن بالطبع نريد فكرا دينيا متسامحا، يبث الرحمة فى القلوب والاشفاق على الضعفاء والفقراء، وليس فكرا مولدا للقسوة أو العداوة، فما هى ياترى تلك الظروف الاجتماعية والنفسية التى يمكن أن تؤدى إلى وجود هذه العواطف والمواقف الإنسانية؟ لابد من أجل الإجابة على هذا السؤال أن نستعين بالتاريخ. لقد عرف تاريخ الإنسانية حقبا توافرت فيها ظروف مساعدة على نمو هذه العواطف المرجوة وحقبا أخرى انتشرت فيها المواقف العكسية بالضبط. ومقارنة أحوال الشعوب فى مختلف الدول اليوم تساعد أيضا على اكتشاف الإجابة المطلوبة، الديمقراطية عامل مساعد دائما (بشرط أن تكون ديمقراطية حقيقية وليس بمجرد الاسم)، وتطبيق قدر معقول من عدالة توزيع الدخل بين أفراد الأمة عامل مساعد أيضا، ونمو الثروة والدخل فى الدولة ككل يساعد ايضا على الوصول إلى هذه النتيجة المرجوة بشرط أن يكون هذا النمو بسرعة معقولة لا تزيد الطموحات بأكثر مما ينبغى فلا تشتد معها المنافسة بين الناس فتقوى روح الجشع والانانية. إن الركود الاقتصادى قد يكون عاملا مساعدا على انتشار التسامح، والحراك الاجتماعى السريع قد يؤدى إلى عكسه لكننا لحسن الحظ لا نحتاج إلى ركود اقتصادى تام للوصول إلى هذه النتيجة، فالحراك الاجتماعى إذا تم فى حدود معقولة يمكن أن تقترن به درجة عالية من التضامن والانسجام الاجتماعي، لكن لابد أن نلاحظ أيضا أن معدل السرعة التى يجرى بها الحراك الاجتماعى قد يكون أقل أهمية من طبيعة العوامل التى تؤدى إلى هذا الحراك. هل حدث الحراك الاجتماعى بسبب انتشار التعليم مثلا أم بسبب نمو التجارة؟ هل صعود الناس على السلم الاجتماعى أو هبوطهم حدث لأسباب مشروعة وأخلاقية أم بسبب الفساد؟ وإلى أى مدى اقترن الحراك الاجتماعى باتصال الدولة بدول أخرى يهمها تحقيق أغراضها هي، أيا كانت الوسائل التى تتبعها فى سبيل تحقيق هذه الأغراض؟ إذا اتخذنا حالة مصر مثالا، نجد أنها شهدت فى النصف الأول من القرن العشرين ظروفا اقتصادية واجتماعية مختلفة جدا عما شهدته فى النصف الثاني. لم تتقدم مصر اقتصاديا بسرعة خلال النصف الأول، ولم نتخذ فيه إجراءات مهمة للتقريب بين الطبقات لكننا نلاحظ أن درجة التسامح إزاء الاقليات كانت أعلى مما عرفته مصر فى النصف الثانى من القرن. لا أظن أن هذه الملاحظة تنطبق على عقدى الخمسينيات والستينيات، إذ كانت حالة مصر من حيث التسامح الدينى أفضل مما أصبحت بعد ذلك. ومن السهل فيما أظن أن نجد تفسيرا لذلك فى التغير الذى طرأ على الحراك الاجتماعي. لقد استند الحراك الاجتماعى خلال الخمسينيات والستينيات، إلى عوامل أقل إثارة للطمع والجشع مما حدث بعد ذلك، حدث خلال هذين العقدين انتشار سريع وواسع للتعليم المجانى والخدمات الصحية، كما صدرت قوانين أدت إلى إعادة توزيع الدخل والتخفيف من حدة الفوارق الطبقية بدرجة ملموسة (أهمها قانون الإصلاح الزراعي)، مما لم تعرفه العقود التالية، كان الحراك الاجتماعى فى الذى شهدته مصر خلال السبعينيات والثمانينيات يستند فى الأساس إلى الهجرة إلى دول أكثر ثراء، وهو عامل عشوائى يتطلب درجة من الشطارة وروح المغامرة مما قد يكون ذا صلة بما لحق روح التسامح الدينى فى مصر من ضعف بعد عقد الستينيات، وحلول مشاعر مضادة محلها. إذا صح هذا التحليل فأظن أننا نحسن صنعا لو أبدينا اهتماما بتغيير السياسات أكبر من اهتمامنا بتغيير الفكر، سواء كان دينيا أو غير ذلك، الأمر فى رأيى يتلخص فى أن تغير الأفكار تابع لتغير الأحوال المعيشية أكثر من العكس. ومن ثم فمهما ننفق من جهد لتغيير أفكار الناس فلن ننجح حتى نغير هذه الأحوال المعيشية. لمزيد من مقالات د. جلال أمين;