نفهم أن تكون للسياسة حساباتها وتعقيداتها فى التعامل مع القضايا القانونية العربية، لكن ما يصعب تفهمه هو عزوف النُخب القانونية العربية عن الانشغال بحقوق ومظالم وقضايا قومية بلغت فى أهميتها بل وخطورتها درجةً تتعلق بالوجود العربى نفسه. ما يبدو لافتاً أيضاً أن يقتصر اهتمام المجتمع الأهلى الحقوقى بمنظماته وجمعياته على القضايا المجتمعية الداخلية (وهو بذاته أمر طبيعى ومطلوب) لكن هذا المجتمع الأهلى القانونى لا يبدى الدرجة ذاتها من الانشغال حينما يتعلق الأمر بقضايا ومظالم عربية لا سيما حين يكون الطرف المعتدى أجنبياً أو حين تمس هذه القضايا مصالح أجنبية. أرصد المفارقة من زاوية موضوعية خالصة بعيداً عن أى إيحاءات أو إسقاطات على واقع التمويل الأجنبى لهذه الجمعيات والمؤسسات الأهلية. الأمثلة كثيرة ومتجدّدة للحقوق والمظالم العربية التى تبدو بعيدة عن انشغال النُخب القانونية بدءاً من القضية الفلسطينية وأحدث فصول مأساتها المتمثلة فى إضراب الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين عن الطعام منذ أسابيع داخل سجون دولة الاحتلال، وقانون »جاستا« الأمريكى الذى تتجاوز عواقبه المستقبلية حساباتنا الحاضرة، وعمليات تدمير ونهب التراث الثقافى والأثرى العربى فى بلدان الحروب والصراعات الأهلية العربية، وسباق التسلح النووى فى المنطقة، واستباحة الأراضى العربية من قبل القوى الأجنبية المتنافسة فيما بينها والمتفاهمة علينا فى الوقت ذاته، واستمرار احتلال الجزر الإماراتية، والتحرش العلنى بثروات العرب، هذه عينة لا أكثر لحقوق وقضايا عربية مشروعة لكن القائمة تطول. أحدث هذه القضايا وأشدها إيلاماً هى قضية الأسرى الفلسطينيين فى سجون دولة الاحتلال. هناك نحو 7000 أسير فلسطينى بينهم من تجاوزت فترة أسره العشرين عاماً، من هؤلاء 320 طفلاً دون الثامنة عشر عاماً، و58 أسيرة،. الجانب الإنسانى فى القضية مأساوي. شبان صاروا كهولاً فى السجون بعضهم أمضى أكثر من 25 عاماً حتى أصبح أطفالهم الذين كانوا فى بطون أمهاتهم لحظة اعتقالهم هم أنفسهم شباناً فى مقتبل الرجولة. مناضلات حرائر تركن خلفهن أطفالاً صغاراً. من هؤلاء الأسرى 1200 مريض، و72 استشهدوا نتيجة التعذيب. أما الجانب القانونى فخلاصته الاستخفاف بكل معنى للعدالة من جانب دولة ما زالت توصف قانوناً بدولة احتلال، تضرب بعرض الحائط بكل المواثيق والقرارات الدولية، وترفض طلبات الصليب الأحمر، وتعتقل أصحاب الأرض اعتقالاً إدارياً بدون محاكمة لمدد طويلة، بل وتعيد اعتقال من سبق الإفراج عنهم فى عمليات تبادل للأسرى متحللة من كل اتفاق ناكثة بكل عهد متحدية للمجتمع الدولى بأكمله. فى ظل هذا المشهد المأساوى يبدو التساؤل عن دور المجتمع الأهلى الحقوقى والنُخب القانونية العربية. باستثناء بعض الجمعيات والمؤسسات النشطة فى شأن هذا الملف فإن عدم الاكتراث يبدو السمة الغالبة، وكثير من الأنشطة والفعاليات على ندرتها تبدو ذات طابع (احتفالي) هنا أو هناك. لهذا تجلّت المفارقة (الموجعة) حين قام نائب رئيس جنوب إفريقيا «كيريل رامافوسا» بالإضراب عن الطعام يوماً واحداً بشكل رمزى تعبيراً عن تضامنه مع الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين الذين يواصلون إضراباً شجاعاً وعنيداً وقاسياً عن الطعام. يلحظ المتابع أيضاً تنامياً للشعور بالتضامن مع المظالم التى يتعرض لها الشعب الفلسطينى فى داخل المجتمعات الغربية نفسها. جامعات وأوساط حقوقية أوروبية وأمريكية أصبحت تنادى بمقاطعة الأنشطة الأكاديمية الإسرائيلية، ومؤسسات أخرى تطالب بمقاطعة المنتجات الزراعية المستوردة من مستعمرات إسرائيلية أقيمت على أراض فلسطينية. قضايا وحقوق عربية أخرى لا يبدو أنها تثير انشغال أو اهتمام النخب القانونية العربية أو منظمات المجتمع الأهلى الحقوقي. فهناك قانون «جاستا» الأمريكى الذى ما زال يجيز مقاضاة دول عربية فى عملية ابتزاز مالى مكشوف لمطالبتها بدفع تعويضات عن جرائم ارتكبها إرهابيون هم فى الحقيقة عصاة وخارجون عن القانون فى الدول التى يحملون جنسيتها. وبرغم ما قيل عن نوايا أمريكية لتعديل هذا القانون فإن شيئاً لم يحدث، بل تم رفع دعاوى تعويض بالفعل ضد دول عربية، كان غريباً ولافتاً أيضاً أن ردود الفعل الأجنبية ضد قانون «جاستا»، وضد المراسيم بقوانين التى أصدرتها الإدارة الأمريكية الجديدة، وضد التلميحات الفظة بأن تسهم دول الخليج العربى شأنها شأن دول حلف الأطلنطى وكوريا الجنوبية فى تحمل نفقات الحماية الأمريكية لها بدت أقوى من ردود الفعل العربية. نحن فى الواقع أمام مناخ دولى جديد ومريب آخذ فى التشكل لا يوجب على الحكومات فقط التحسب له بل على النخب القانونية العربية أيضاً استجلاء أبعاده والانشغال به. ربما يكون فتور النخب القانونية العربية والمجتمع الحقوقى الأهلى فى الاهتمام بالمظالم والحقوق العربية مرده العزوف عن تبعاتها واشتباكاتها السياسية لا سيما من جانب النخب القانونية الأكاديمية وهى تضم قامات رفيعة سبق لها العمل فى دولاب الدولة، لكن لم يعد لهذا العزوف ما يبرره. فليس مطلوباً ولا حتى مجدياً من النخب القانونية العربية الاشتباك مع قضايا السياسة الداخلية لأن الحقوق والمظالم العربية هى ذات بعد قومى وأخلاقى بالأساس، بل إنها من هذا المنظور يمكن أن تصبح عامل تعاضد يعلو ولو مؤقتاً على أى تباينات سياسية. لمزيد من مقالات د. سليمان عبد المنعم;