قال خبيث من خبثاء هذه الأيام وهم أكثر من الهم علي القلب لم أسمع إلا صوته الذي أتاني متحشرجا مبحوحا وكأنه قادم من فم غاضب علي الدنيا.. كاره لكل مخلوقات الله: يعني حضرتك كده بالصلاة علي النبي لم تقابل في حياتك كلها رجلا بالمعني الحقيقي للرجل.. يعني رجلا من هذا الصنف من الرجال الذي انقرض من حياتنا.. وذهب إلي غير رجعة..؟ يعني من هذا النوع من الرجال الذين يقف علي شواربهم الصقور وهم يتكلمون.. ولا يتوقفون عن الكلام؟ يعني ألم تقابل في حياتك كلها رجلا حقيقيا بمعني الكلمة قولا وفعلا وحضورا! قلت: بل قابلت وتلك هي حكايتي مع هذا الرجل الحمش بكسر الحاء والميم وسكون الشين وتحدثت معه.. وكانت لي معه هذه الحكاية أقولها بالصدق كله: وأقول: واذا كان الرجال الحقيقيون قد انقرضوا.. وبقي القليل منهم.. واحد منهم قابلته مع زميلي الأديب والقصاص سامي فريد عندما كنا عائدين من مبني التليفزيون في طريقنا إلي «الأهرام» عبر الشارع الواصل بين كورنيش النيل وشارع فؤاد في نصفه الشعبي في قلب حي بولاق.. الذي يفاوضون سكانه لكي يبيعوا أو يرحلوا..وبجوار مقهي قديم يحمل اسما عزيزا علي كل مصري هو «أبطال الفالوجا».. وللذين لايعرفونهم هم أبطال مصر الذين قاتلوا جنود اسرائيل في حرب 1948 وانتصروا عليهم في موقعة النصر والشهادة. علي ناصية هذا المقهي.. جلست بائعة فاكهة حسبتها لجمالها البلدي المثير انها ممثلة مصرية ارتدت هذا الزي لتصوير مشهد سينمائي في فيلم «ضرب الحبيب زي أكل الزبيب» وهو من أفلام موجة هذه الأيام التي لانعرف أصلها من فصلها.. والتي اخترعوا لها قوانين تسمح بالعيب قبل الأدب وبالعري قبل الحشمة وبقوانين ولوائح «أبلتي» في بيوت اللعب والرقص علي المكشوف وكأن عالم شارع محمد علي الجواني قد عاد وساد.. الكلمة فيه «لأبلتي» وما أدراك ما كلمة «أبلتي» هذه التي تدير أوكارا لا تدعو إلي الفضيلة والحق والخلق القويم طبعا وحقا وصدقا! فجأة اقتحم المشهد رجل بشنبات وطاقية شبيكة ولاسة علي كتفه.. وأمسك بالبائعة الجميلة وهات ياضرب حتي أوقعها أرضا.. وتدخل صديقي من باب الشهامة وامسك بكتفي الرجل وسحبه إلي الوراء وهو يصيح فيه: عيب يا راجل تضرب حرمة في الشارع..! فإذا «بالحرمة» التي «حتي لاننسي» هي المرأة الفائقة الجمال والفتنة تتدخل وتمسك بتلابيب صديقي وتقول له: «انت مالك يا افندي انت.. واحدة بيأدبها جوزها.. تنحشر إنت ليه؟«. واجتمع حولنا كل من كان في السوق من أحياء يرزقون.. وحتي لاتتطور الأمور إلي ما لا تحمد عقباه أمسكت بكتفي المعلم الغضنفر وقلت له: حصل خير يا معلم.. احنا اللي غلطانين حقك علينا.. المهم.. انتهي المشهد الميلودرامي العنيف الذي فعلا جعلنا: نردد أين زمان الزوج الحمش جدا.. و«توتة توتة.. خلصت الحدوتة؟» .............. ............... قالت سيدة وهي جالسة لانها لا تستطيع أن تقف وحدها دون معاونة من أحد الحضور لكثرة ما اكتنزته من لحم وشحم عبر سنوات الهبر والحشر والبلع التي طالت وامتدت حتي وصل بها العمر إلي ما بعد الاربعين: ولكنك يا سيدي لم تكمل لنا قصة هذا السعيد المسعد أبو السعد كله الذي اكتنز مالا وعدده كما يقول المولي في كتابه العزيز.. ونسي أسرته وحدها في القاهرة ومعها ما يكفيها ويزيد من مال الغربة دولارات وأسترليني.. ماذا جري لأسرته وهو في الغربة؟ وما هو حصاد هذا العز.. وغياب الأب الدائم؟ قلت: الزوجة تطلب الطلاق لأنها زهقت وقرفت من الوحدة و »زن« ستات السوء.. تسأل هي: والولاد؟ قلت: الأولاد.. واحد أدمن حتي الجنون.. وأخذه أبوه إلي مصحات باريس للعلاج.. ولا فائدة.. والثاني.. لافت عليه راقصة درجة عاشرة في افراح بولاق والمنيرة قريبة الميكانيكي الذي يصلح عنده عربته.. وتزوجها في السر وانجب منها طفلة صغيرة.. والبنت الوحيدة ملكة جمال الجامعة الأمريكية رأسها وألف سيف إلا أن تتزوج رجلا في عمر أبيها بحجة أنه مجرب ومحنك وفنان كبير.. موش هايف وتافه زي شبان اليومين دول.. حتي لو كان له زوجة أخري وزوربة من الأولاد! الرجولة والشهامة أيها السادة لا تباع ولا تشتري.. ولكنها تورث وتكتسب ممن نعاشرهم ويعاشروننا.. الاب والام والاخوة والاعمام والاخوال.. والبيت الذي نعيش فيه والاسرة التي تربينا فيها وخرجنا منها.. وأصول الدين ومخافة الله والتربية الصالحة والاسوة الحسنة من الاب والام.. هي الارض التي تنبت نباتا حسنا ورجالا حقيقيين في زمن عز فيه الرجال.. ونساء يجمعن بين الجمال والفضيلة والحق القويم: ولكن.. البيت تفكك وأصبح عاريا بلا سقف.. وسقف البيت هو رجله.. وتاه الأولاد والبنات اللاتي والذين اصبحوا يعيشون بلا رقابة من الأب الذي نسي دوره.. وبلا مظلة تحميهم من غدر الأيام ورفاق السوء.. ............. ............. ولكن.. آه من رجال هذا الزمان.. أو آخر الزمان؟ رجل يترك بيته وزوجته وأولاده بلا مصروف بيت.. أو يترك لهم أقل القليل.. ويجلس علي المقهي يلعب القمار.. ويشرب المعسل الذي يحرق صدره.. ويبلبع الكيف من حشيش أو افيون أو بانجو.. وهذا النوع تجده كثيرا بين سائقي التاكسي السرفيس وطائفة الميكانيكية وعمال المعمار.. وهم لا يختشون ولا يبالون.. بعد أن تبلد فيهم الاحساس.. وضاعت منهم الحمية.. وقد قادتني قدماي مرة إلي مقهي بلدي في حي شعبي ساعة العصاري.. وهو مقهي يجتمع فيه سائقو الميكروباسات في آخر الدور يشربون الشاي ويدخنون انفاسا من المعسل.. وتقتحم المقهي شابة صغيرة السن علي وجهها مسحة من الجمال اضاعها هم العيال الذين سحبت ثلاثة منهم معها.. وامسكت بكتف شاب يجلس علي ترابيزة مع رفاق له سائقين مثله.. وصاحت فيه: جري ايه ياصنقر سايبنا من غير ولا مليم وطفشان من البيت بقالك ثلاثة ايام.. والبيت مافيهوش لقمة ياكلها عيل! ويقف صنقر غاضبا ويبادلها صياحا بصياح: جري ايه يابنت اللي مايسواش.. جايالي هنا علشان تجرسيني وسط الخلق.. ورفع يده وصفعها علي وجهها.. ليصرخ الصغار المعلقون في جلبابها وتنهمر دموعهم.. ويمسك به رفاقه ويبعدونه عنها.. وهو يتوعدها بالضرب يوماتي.. والطلاق إذا تمادت في غيها! ولم أتدخل بالطبع.. وإلا نالني ما لا أحبه او ما لا ارضاه.. ولكن تدخل زميل للسائق قال له بذوق: اديها حاجة ياصنقر علشان البيت والأولاد! وقال له آخر: ارجع بيتك.. وشوف مراتك وعيالك! ولكنه يأبي أن يمد يده في جيبه ويخرج لها بضعة جنيهات تسد رمق الصغار.. وتصرخ الزوجة الصغيرة السن الكبيرة الهم: أمال عاوزني أعمل ايه ياصنقر.. اتصرمح في الشوارع وأعمل حاجة تغضب ربنا علشان أوكل العيال؟! ويخرج رجل سمين يلبس لاسة وطاقية من قلب المقهي ويمسك بيد الزوجة ويبعدها مع أولادها عن الجالسين في المقهي ويقول لها: بس يابنت انتي.. كويس كده الفضايح دي.. صنقر ابني وانتي بنتي. وهو بيشتغل علي العربية الميكروباص بتاعتي.. خدي الفلوس دي من حسابه عندي.. وإن ماداكيش مصروف البيت تعالي لي.. تدمع عينا الزوجة المتلطمة فرحا وتأخذ ما أعطاه الرجل وتجر عيالها وتذهب لحال سبيلها.. بينما ينظر الرجل إلي صنقر نظرة عتاب كبيرة وهو يقول: رجالة إيه دي.. رجالة آخر زمن! .... .... رجال آخر زمن.. هم من صنف صنقر هذا.. ومن صنف هذين الشابين اللذين اقتسما زوجة واحدة تزوجاها معا في وقت واحد.. واتفقا علي أن تعاشر كل واحد منهما شهرا.. وإذا أنجبت ذكورا يكتبون باسم الأول.. واذا انجبت إناثا يكتبن باسم الثاني. معقول ياعالم .. اسمعكم ترددون! .................. .................. وهذا الرجل الذي أكل دماغه وحاله ومحتاله ذلك الكيف اللعين الذي اسمه في دنيا الادمان، »البودرة« وهو إما هيروين خام أو مخلوط بمسحوق عظام الموتي أي والله عظام الموتي، كما قال لي وأكد معلم بكسر الميم ونصب العين كبير في بولاق من ذلك الصنف الذي أمضي عمره كله في عالم الكيف والدخان الأزرق اللعين.. انهم يضيفون إلي البودرة مسحوق عظام الموتي.. لكي تزيد أرباحهم وتنتفخ كروشهم أكثر وأكثر ولا يهم حرمة الموتي أو موت الأحياء من المدمنين الذي شاء سوء حظهم أن يلتمسوا الكيف.. والدخان الأزرق عندهم في قلب المقابر. نعود إلي صاحبنا الذي أكل دماغه ومرمط حاله وجابه إلي الورراء علي حد تعبيرهم ذلك الكيف اللعين.. هذا الرجل.. عندما انحدر به الحال وضاق به الزمان.. لم يجد ما يطعم به أطفاله الثلاثة.. إلا أن يلقي بهم من فوق كوبري امبابة إلي النيل.. ليغرقوا فيه..! وعندما سألوه: لماذا فعلت هذه الفعلة الشنعاء؟ قال: ليس معي ما أطعمهم أو أسقيهم أو أحميهم أو أربيهم! وزميله الذي باع شرفه وعرضه من أجل تذكرة هيروين.. ليسمح لتاجر الصنف أن يأخذ امرأته إلي داره،، وشوف بقي أما راجل معلم الصنف اللي هو الهيروين ياخد واحدة ست ثمن التعميرة التي تعمر دماغ جوزها.. آه يازمن! ومن صنف ذلك الرجل ذلك الذي جمعتني به في سنة من السنوات مع زوجته مائدة واحدة في سهرة في ليلة رأس السنة وكان معي زوجتي وابنتي ووقف مطرب يغني في آخر السهرة.. فإذا بالزوجة تقوم من مكانها وهي تتراقص وتتمايل وهي في طريقها إلي «البيست».. وعندما حاول الزوج أن يمنعها صاحت به وشوحت بيديها في وجهه: اسكت انت.. ايش عرفك انت! وبينما الزوجة المصونة الممتلئة القوام تتراقص علي البيست علي أغاني المطرب ودقة الطبلة.. قال لنا الزوج وهو في غاية الكسوف: أصلها عصبية! ............... ............... لقد سألت أمي التي ربتني وكانت مثل كل الامهات نعم الأم لي ولأخي صلاح.. لم تترك بيتها يوما.. عندما أقوم أنا وأخي في الصباح من النوم نجدها قد حضرت لنا افطارا من البيض المقلي والجبنة القريش.. وعندما نعود بعد الظهر من المدرسة نجد المائدة جاهزة وآخر تمام.. فهي لم تغادر بيت زوجها وابنيها إلا للقاء رب كريم.. أقول هنا سألت أمي يوما: كيف استطعت ترويض هذا الوحش الآدمي الذي اسمه أبي؟ قالت: حاجة بسيطة خالص الكلمة كلمته حتي لو خطأ.. إذا كانت خطأ أصححها أنا بمعرفتي.. وعلي فكرة هو كان ياخذ رأيي في أمور الأسرة.. حتي شغله هو كمهندس ري كان ياخذ رأيي في أي موضوع حيوي كبير.. أقول له رأيي.. وأسكت وفي الصباح يقول لي: يا أم صلاح.. اعملي كذا وكذا.. وهو نفس الرأي الذي قلته له أنا في الليل.. ولكن علي لسانه هو! ............. ............. نفس ما فعلته أمي.. فعلته المرأة المصرية طوال تاريخها الذي صنعت فيه تاريخ مصر العظيم الذي صنع الرجال في المعارك وفوق كراسي العرش والسلطة والصولجان.. بالبطاربة المشحونة في البيت التي اسمها المرأة.. وقبل أربعة آلاف سنة ويزيد قال الحكيم ستب حتب أعظم حكماء وفلاسفة مصر القديمة: الرجل يعرف أكثر.. ولكنه يفهم أقل.. والمرأة تعرف أقل ولكنها تفهم أكثر.. وسلام عليك أيتها المرأة المصرية في كل عصر وفي كل دار..! { Email:[email protected] الرجل يعرف أكثر.. ولكنه يفهم أقل.. والمرأة تعرف أقل ولكنها تفهم أكثر { الحكيم المصرى ستب حتب { لمزيد من مقالات عزت السعدنى;