تميز موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب دون غيره من كبار الملحنين بابتكار أو تأليف مقدمة موسيقية مبهرة ومطولة يمهد بها لألحانه لسيدة الغناء أم كلثوم ويختار خلالها فواصل من العزف المنفرد لمشاهير العازفين الذين يعشقهم الجمهور بآلاتهم الموسيقية، الكمان والأوكرديون والجيتار والأورج والناى وغيرها ، وكانت رائعته « إنت عمرى » لأحمد شفيق كامل أول أغنية يضع فيها مقدمة موسيقية متضمنة بعض هذه الآلات ، علماً بأن أقرانه من كبار الملحنين ابتكروا مقدمات موسيقية ليست بالمساحة الزمنية لألحان عبد الوهاب وتستطيع أن تتعرف على أغنياتهم لأم كلثوم بعد الدقائق الأولى من بداية اللحن مثل « وقف الخلق » وياليلة العيد آنستينا « للسنباطى و » حب إيه « لبليغ حمدى و « يا مسهرنى » لسيد مكاوى و « للصبر حدود» للموجى. وجاءت اطول مقدمة موسيقية أبدعها عبد الوهاب لأم كلثوم فى أغنية «ودارت الأيام» ، التى كنت شاهد عيان على مراحل إنتاجها ، وهى من تأليف الشاعر الكبير مأمون الشناوى ويقول مطلعها « ودارت الأيام .. ومرت الأيام .. ما بين بعاد وخصام .. وقابلته .. نسيت إنى خاصمته .. ونسيت الليل اللى سهرته .. وسامحت عذاب قلبى وحيرته .و«دارت الأيام» افتتحت أم كلثوم موسمها الغنائى عام واحد وسبعين عندما انفرد الكاتب الصحفى الزميل محمد صالح فى الصفحة الأخيرة للأهرام بالنص الكامل للأغنية مع صور عبد الوهاب وأم كلثوم ومأمون الشناوى وأذكر أن مذيع الحفل فى هذه الليلة قرأ النص الكامل للأغنية من جريدة الأهرام وأذكر أيضاً أن الموسيقار عبد الوهاب حضر لسينما قصر النيل قبل موعد الحفل بساعتين ليطمئن على إتقان العازفين للمقدمة الموسيقية التى ابتكرها كعادته عندما يكون قلقاً على كل عمل يبدعه لأم كلثوم ولن يهدأ له بال إلا إذا اطمأن تماماً أن كل شىء على ما يرام وكان من المقرر ( حسب رأى مهندس الصوت أن تستغرق المقدمة الموسيقية ست دقائق) ولكن وبناءً على طلب الجمهور فى الحفل اضطر عازف الكمان الأول أحمد الحفناوى والفنان عمر خورشيد عازف الجيتار والفنان سيد سالم عازف الناى أن يعيدوا العزف على هذه الآلات حيث استغرقت المقدمة حوالى عشرين دقيقة بعد التصفيق الحاد للعازفين الثلاثة ، أما بروفات الأغنية مع فرقة أم كلثوم برئاسة عازف القانون الأول محمد عبده صالح فقد بلغت حوالى خمس وعشرين بروفة قبل أن يتم تسجيلها.(ومن الحكايات التى أذكرها أيضاً أن الموسيقار عبد الوهاب طلب من الشاعر مأمون الشناوى أن يختار عنوانا آخر للأغنية غير عنوان ودارت الأيام واتفق مع الشاعر على أن يكون العنوان الجديد «يا عينى ع العاشقين « خاصة وأن الأغنية تتضمن فى أحد مقاطعها شطرات «عينى عينى ع العاشقين .. حيارى مظلومين .. ع الصبر مش قادرين .. « ولكن أم كلثوم غضبت ورفضت تماماً التغيير وتمسكت بالعنوان الأول – باعتباره الأفضل - وأصرت عليه، الأمر الذى جعل عبد الوهاب ومأمون الشناوى يوافقانها على طلبها ( خشية تعطيل العمل ) وجاء موعد الحفل الذى نقلته الإذاعة على الهواء وجلس عبدالوهاب كعادته خلف الكواليس ليتابع سيدة الغناء فى أدائها للحن وهو يقرأ بعض الآيات القرآنية لينفتح الستار ويتم عزف المقدمة الموسيقية بالصورة التى أبدعها عبدالوهاب فينشرح صدره ويبتسم. (وتتجلى أم كلثوم فى المقطع الذى يقول: « قابلنى والأشواق فى عينه .. سلم وخد إيدى فى إيديه .. وهمس لى قالى الحق عليه .. نسيت ساعتها بعدنا ليه .. «، وتبدع أم كلثوم أكثر عندما تغنى بصوتها الرائع « أمر عذاب .. وأحلى عذاب .. عذاب الحب للأحباب .. ما أقدرتش أصبر يوم على بعده .. ده الصبر عايز صبر لوحده «.. (أما المقطع الذى أبدعه عبدالوهاب موسيقياً وشدت به أم كلثوم وتأثر بأدائها الملهم ( وكنت أجلس خلف الكواليس دون أن يرانى ) فهو المقطع الذى يقول فيه الشاعر: « وصفوا لى الصبر .. ولقيته خيال وكلام فى الحب .. يادوب ينقال .. أهرب من قلبى أروح على فين .. ليالينا الحلوة فى كل مكان .. مليناها حب احنا الاتنين .. وملينا الدنيا أمل وحنان ..». ويطلب الجمهور إعادة هذا المقطع مرتين وسط التصفيق المدوى لأداء سيدة الغناء .. وتتجلى فى الختام بأجمل ما كتبه الشاعر الكبير مأمون الشناوى: « وهل الفجر .. بعد الهجر .. بلونه الوردى بيصبح .. ونور الصبح .. صحى الفرح .. وقال للحب .. قوم نفرح .. من فرحتى تهت مع الفرحة .. من فرحتى .. لابنام ولا بصحى» .(وقبل أن يسدل الستار على سيدة الغناء يغادر عبد الوهاب مستقلاً سيارته ليستمع إلى كوبليه الإعادة فى منزله بالزمالك وسط فرحة الأسرة بالنجاح الكبير ودارت الأيام بينما تواصل أم كلثوم الغناء حتى انتهاء الحفل لتغادر سينما قصر النيل بصعوبة بالغة وسط المعجبين الذين التفوا حول سيارتها بالهتاف والتصفيق لتهنئتها برائعتها الجديدة.