يقوم البنك المركزى المصرى وبعض البنوك التجارية، فى الآونة الحالية، بحملة إعلانية واسعة لتشجيع التعاملات المصرفية بدلا من التعاملات النقودية السائدة بالمجتمع وذلك تحت شعار الشمول المالي، وهو هدف نبيل وضرورى للمجتمع ومسألة غاية فى الأهمية والخطورة وتعتبر وبحق احدى المعوقات الأساسية أمام انطلاق الاقتصاد المصرى إلى الأمام. ورغم ذلك الا أنها لم تحظ بالاهتمام او الدراسة ولم تكن ذات يوم فى صدارة الحوارات المجتمعية. رغم آثارها السلبية العديدة ولذلك حسنا فعل القائمون على هذه الحملة، خاصة ان عدد اصحاب الحسابات البنكية لدى الجهاز المصرفى لا يتجاوز 10% من عدد السكان، وهو مايدل على ضآلة التعاملات المصرفية مقابل انتشار التعاملات النقودية بالمجتمع. ولكن يظل السؤال هو كيف يمكن أن تؤتى هذه الحملة ثمارها؟ إذ إننا نرى أن هناك العديد من القيود والعوائق التى يجب التركيز عليها جنبا الى جنب مع التوعية الإعلامية. فمازالت العادات السائدة لدى معظم الأفراد فى المجتمع بعيدة تماما عن مفهوم التعامل المصرفى وتفضل التعاملات النقودية فى كل الأمور والأحوال والصفقات، الصغيرة منها والكبيرة. وللأسف فإن هذه الظاهرة لا تقتصر على الشرائح الدنيا من الأفراد، كما يتصور البعض، ولكنها تمتد لتشمل كل شرائح المجتمع والأهم من ذلك أنها تشمل أيضا العديد من المؤسسات العاملة فى المجتمع، مثل الفنادق والنوادى والمدارس والجامعات الخاصة وغيرهم. إذ يتم دفع مستحقات هذه الجهات وخاصة المصروفات الدراسية لديها نقدا وليس عن طريق التعاملات البنكية. وهناك العديد من المؤشرات الإحصائية التى تؤكد تفضيل ذلك من أهمهاارتفاع نسبة النقد المتداول خارج الجهاز المصرفى فى هيكل السيولة المحلية حيث ارتفع من 14.2% عام 2009 إلى 16.6 % عام 2011 والى 17.9% عام 2014 وذلك قبل ان يهبط إلى 16.5% خلال عامى 2014/2015 و2015/2016. جنبا الى جنب مع انخفاض نصيب الودائع المصرفية. وانخفاض النقد المتداول من العملات فئات العشرين جنيها والفئات الأقل، مقابل الزيادة الكبيرة فى العملات فئتى (مائة جنيه ومائتا جنيه) حيث ارتفعت الثانية من 24.2% عام 2009 الى 52.2% عام 2016. ناهيك عن ارتفاع معدل الاكتناز بالمجتمع والذى ظهر جليا فى الأموال التى توجهت إلى شركات توظيف الأموال فى ثمانينيات القرن الماضى وحتى الان، فضلا عن تلك التى استثمرت فى شهادات قناة السويس وغيرها الكثير. ومن أخطر الظواهر ما أشار اليه تقرير البنك الدولى من انخفاض عدد الشركات التى تتعامل مع البنوك، مشيرا إلى أن أقل من 60% من الشركات تملك حسابا جاريا أو توفير بالبنوك وان 6% فقط منها لديها قرض مصرفى أو خط اعتماد. ولهذا تمثل البنوك 2% فقط من تمويل هذه الشركات وهو ما يقل كثيرا عن المتوسط فى منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا حيث يصل إلى 12%. وبعبارة أخرى فإن 40% من شركات القطاع الخاص المنظم لا تملك حسابات فى البنوك ولا تتعامل مع الجهاز المصرفى على الإطلاق، فإذا ما أضفنا إلى ذلك القطاع غير المنظم لتضح لنا الحجم الكبير ممن لا يتعاملون مع الجهاز المصرفى. وقد أدت هذه الظاهرة إلى العديد من الآثار السلبية منها عدم القدرة على التشخيص الدقيق والسليم للظواهر الاقتصادية ومعرفة الآليات التى تحكم سلوك وتحركات الاقتصاد المصري، وكذلك إظهار النشاط الاقتصادى على غير حقيقته وصعوبة وضع الحسابات القومية للبلاد. الأمر الذى يجعل من الصعوبة بمكان إدارة الاقتصاد القومى بصورة كفؤة، ومن ثم القدرة على وضع الآليات المناسبة للتعامل مع المشكلات الحقيقية فى المجتمع.هذا فضلا عن فقدان السلطات النقدية قدرتها على استخدام الأدوات النقدية لتحقيق الأهداف المنوطة من الخطط التنموية. وعلى الجانب الاخر فانها تؤثر بالسلب على الأفراد إذ إن تداول النقود بهذا الشكل يعرضها للكثير من المخاطر مثل السرقة أو التلف أو الضياع... إلخ. يمكننا إعزاء هذه الظاهرة الى مجموعة من العوامل يأتى على رأسها تخلف العادات المصرفية لدى قطاع كبير من الأفراد وعزوفهم عن التعامل مع البنوك مفضلين التعاملات النقودية أو المقايضة وهو ما يحرم البنوك من جانب لا بأس به من المدخرات نتيجة لتسربها إلى خارج الجهاز المصرفى وهى النقطة التى تحسن شركات تنظيف الأموال استغلالها تماما، خاصة وأنها تركز على العلاقات الشخصية والتعامل المباشر مع الأفراد، بينما يظل الجهاز المصرفى بالنسبة لهؤلاء كائنا هلاميا لا يراه إلا فى الأفلام، بل وحتى حينما تنشئ البنوك فرعا لها فى هذه المناطق فهى تتعمد البناء على أحدث مستوى من الفخامة والبذخ بحيث يخشى المواطن العادى الاقتراب منه أصلا ناهيك عن التعامل معه. يضاف الى ذلك انتشار بعض القيم السلبية فى المجتمع المصرى تجاه التعامل المصرفي، فضلا عن سيادة انطباع لدى البعض بأن هذه التعاملات هى تعاملات ربوية وبالتالى مخالفة للشريعة الإسلامية، الأمر الذى أدى إلى إحجام نسبة لا بأس بها من الأفراد عن التعامل المصرفي، وذلك رغم المحاولات التى قامت بها بعض البنوك بإنشاء فروع للمعاملات الاسلامية. وعلى الرغم من عدم صحة هذه المقولة تماما وهو ما أوضحته العديد من الفتاوى الإسلامية المهمة من كبار المفكرين الإسلاميين وعلى رأسهم الإمام الراحل د. سيد طنطاوى فى كتابه «معاملات البنوك وأحكامها الشريعة» إلا ان هذا الانطباع مازال سائدا لدى شريحة لا بأس بها من الأفراد، خاصة فى الريف المصري. وكلها أمور أدت إلى ارتفاع معدلات الاكتناز والاستمرار فى تفضيل التعامل النقودى عن التعامل المصرفي. إذ إن المتتبع لمدخرات القطاع العائلى يجد أن معدلاتها فى تناقص مستمر أيضا، سواء داخل الجهاز المصرفى أو توفير البريد وشهادات الاستثمار، ويرجع البعض السبب فى ذلك إلى ضعف دخول الافراد باعتباره عاملا مهما فى تحديد نمط الاستهلاك فإذا كان مستوى الدخل ضعيفا فإن حساسية الادخار الخاص لأسعار الفائدة ستقترب من الصفر. وهو ما يطبق على البلدان التى تتميز بسوء توزيع الدخول بين الأفراد، كما هو الحال فى مصر. وغياب أدوات الاستثمار المناسبة والملائمة للمدخر الصغير فى المجتمع عموما وفى القرى والنجوع على وجه الخصوص هذا فضلا عن عدم نجاح الجهاز المصرفى حتى الآن، فى تقديم الخدمات المصرفية المطلوبة فى الريف والقري، ولا الوجود بالقرب منهم وفى أماكن يسهل الوصول اليها. ( وهو ما سنتناوله فى المقال المقبل بإذن الله) لمزيد من مقالات عبدالفتاح الجبالى