تلك ثورة انتظرناها بفارغ الصبر لعقود دون أن تظهر بشائرها وتجلياتها فى آفاقنا الرحبة، ثورة غرضها ليس إشاعة الفوضى والخراب وتقويض مؤسسات الدولة، وإنما إنقاذ العقل المصرى من الجهل والتخلف والتشدد المقيت الذى ينسج خيوطه بمكر ودهاء، لاجتذاب المغيبين والجهلاء لدهاليز وأوكار الإرهاب والعنف. بوادر وإرهاصات الثورة المرتقبة حملتها مبادرة «التنمية المحلية الثقافية» التى أطلقتها وزارتا الثقافة والتنمية المحلية الخميس الماضي، بغية الوصول بالثقافة وأدواتها إلى كل قرى مصر 4740 قرية ، وهى مبادرة طموح ومبشرة سيكون لها تأثيراتها وانعكاساتها الإيجابية على جهود التنمية الاقتصادية والاجتماعية التى لن تتحقق وتزدهر دون النهوض الثقافي، فبفضل النهضة الثقافية الشاملة ستتحول القرية من مستهلكة إلى مكتفية ثم منتجة، وهو ما ننشده ونحث عليه، فلو كنا منتجين حقا ولدينا القدر المعقول من الإنتاج الصناعى والزراعى وخلافه لجنبنا أنفسنا اهتزازات وتقلبات وتوابع تذبذب أسعار الصرف، والضغط على يدنا الموجوعة، بسبب اعتمادنا الكامل على الاستيراد للحصول على احتياجاتنا الضرورية، والاقتراض من المؤسسات الدولية كصندوق النقد. أول جزئية تستحق الثناء فى المبادرة الواعدة أنها ثمرة للتفاعل البناء بين وزارتين ارتضتا التعاون معا وأشركتا معهما مجموعة من المثقفين والشخصيات المعروفة، حتى يكونوا معينا لا ينضب للأفكار والمقترحات النيرة، والتفاعل الإيجابى بين الثقافة والتنمية المحلية، الذى نأمل أن يستمر ولا يغرق فى بحور البيروقراطية العاصفة، ولابد أن يكون نبراسا تحتذى به الوزارات الأخرى التى تبدو أحيانا وكأنها مقطوعة الصلة ببعضها البعض ولا يوجد تنسيق وتناغم فيما بينها، أو تنخرط فى معارك وهمية للتكويش على أكبر قدر من الصلاحيات والسلطات، بينما المنتظر أن يعزف الكل نغمة واحدة وليس نغمات متفرقة غير متجانسة، وعليهم تذكر أن طبيعة الظرف تحتم تشابك الايدى وليس تباعدها. الجزئية الثانية أن المبادرة خطوة شجاعة لاقتحام عش الدبابير التى هيمنت على قرانا وكونت تحالفا اختلط فيه الحابل بالنابل واستغله الإرهابيون والمغرضون والأميون بإحكام لعزلها نفسيًا واجتماعيًا عن محيطها القريب والبعيد، فعندنا قرى ليس لها أدنى صلة بالحداثة والمدنية من كثرة ما تعانيه من مشكلات حياتية وخدمية، أو لوقوعها جغرافيا فى مناطق نائية، وبتنا نسمع ونقرأ عن قرى بكاملها تؤمن بالفكر التكفيري، وبعضها يرفض كلية التعاملات مع الأجهزة الحكومية، ولا يتزوجون إلا من بينهم، ويبيحون استهداف عناصر الشرطة والقوات المسلحة، وبالتأكيد فإنهم يقاطعون كل ما هو ثقافى فلا غناء، ولا رسم، ولا مسرح، ولا سينما .. الخ، فكلها محرمة ولا مكان لها، حيث إن التصدى لهؤلاء ومن على شاكلتهم والسعى لنشر الثقافة بكل أشكالها ليس بالمهمة الهينة وإنما تقترب من الاستحالة، لكن العزيمة الفولاذية والإصرار يصنعان المستحيل، وكفيلان بتليين الحديد. وعند التطبيق العملى للمبادرة الذى نأمل ألا يتأخر لن يكون هؤلاء وحدهم العائق والمانع أمامها فإلى جوارهم عوامل أخرى منها ما يلي: أولا: أن تصبح المبادرة سياسة دولة وليس وزارة ولا وزير، أى أن تخلو تماما من البعد الشخصى الذى طغى واستفحل، فهى جاهزة وقابلة للتنفيذ سواء بقى المسئول أو غادر موقعه، ورب قائل إن وزارتى الثقافة والتنمية المحلية تعبران عن الدولة، نظريا الرأى صحيح، أما عمليا فهناك قول آخر، لأنك لو دققت قليلا فستتوصل إلى أن القضية فى حد ذاتها ليست بجديدة وسبق الحديث عنها مئات إن لم يكن آلاف المرات فى الماضى السحيق وفى الأمس القريب وأعلنت عشرات الخطط والمبادرات التى كانت تموت بالسكتة القلبية فور تغيير الوزير، أو قدوم حكومة جديدة، أو لقلة الحماس وتقديم أشياء أخرى عليها باعتبارها الأكثر الحاحا، ومن ثم مطلوب أن تكون المبادرة جزءا اصيلا من سياسات النهضة المصرية ولها أولوية، وأن تسير على قدم وساق إلى جانب ما يتم تنفيذه من مشروعات قومية كبري. وعلى المسئولين عن التخطيط للتجمعات السكنية الجديدة مراعاة اشتمالها على مكتبات، ودور سينما، ومسارح، ومراكز ثقافية تبرز المبدعين والموهوبين فى جميع المجالات، وأن نعتنى بانشاء المكتبات، ودور النشر العامة والخاصة فى القرى والمراكز. ثانيا: الأمية تلك الآفة الرهيبة التى لم نتغلب عليها بعد، فهى تمثل حاجزًا منيعا يتكسر عنده اندفاع عربة التقدم والتحديث والثقافة، فالأمى عجينة طيعة يشكلها الخبثاء والأشرار كيفما اشتهوا وعلى مزاجهم الخاص، وياحبذا لو أن المبادرة تضمنت الاستعانة بالمجتمع المدنى فى مواجهة هذه الظاهرة الخطيرة، فجهد المجتمع المدنى حيوى للغاية، فبعض منظماته تقوم بمساع طيبة لمحو الأمية وبتمويل ذاتى وليس خارجيا، ومساعدة المحتاجين والمصلحة العامة تقتضى السماح لها بهامش جيد للحركة والعمل التطوعي. ثالثا: وقوع جزء لا يستهان به من القرى المصرية تحت سطوة الجماعات السلفية والتيارات المتشددة والتكفيرية، فقد أضحى لها موطئ قدم راسخ، ويتجلى ذلك فى صور متنوعة، منها النقاب، وفرض الحجاب على الفتيات الصغيرات، والتوسع فى بناء الزوايا، وهم قوة مضادة مناهضة للمحافل والمعالم الثقافية، ولم يكن هذا التصور وليد اليوم، فبداياته تعود لسبعينيات القرن العشرين وما تلاها من تطورات ووقائع، وما هجمات الجماعة الإسلامية على الحفلات الفنية والثقافية فى الجامعات وعلى محلات بيع الفيديو عنا ببعيد. ولكى تواجه تأثيرهم وتغلغلهم يجب أن يتدخل طرفان بفاعلية وحزم، الطرف الأول وزارة التربية والتعليم عبر اذرعها فى كل بقعة من بقاع البلاد ممثلة فى مدارسها ومعلميها، وما الحائل دون أن تتضمن المناهج الدراسية إضاءات وسير اعلام الفكر والأدب والفنون الراقية، وأن تنشط المسارح المدرسية، ولا تخلو مدرسة من مكتبة بها أعمال تعلى من شأن الثقافة ودورها المجتمعي، وكم كان غريبا ألا تكون الوزارة حاضرة ومشاركة فى تدشين المبادرة. الطرف الثانى المعاهد الأزهرية 9250 معهدًا على مستوى الجمهورية فهى كفيلة بتصحيح المفاهيم المغلوطة، وأن الدين لم يكن يوما معاديا ولا مخاصما لكل ما يسهم فى ارتقاء الإنسان وتهذيب أخلاقه وتنويره، وأن إعمال العقل لا يتنافى مع الإسلام وبقية الأديان السماوية، وأن الدين الحنيف ينظر للآخر المختلف دينيا وفى عاداته وتقاليده نظرة احترام وتقدير وإخاء. رابعا: عقلية الموظفين وادمانهم البيروقراطية، وهو ما يعوق تسهيل نشر الثقافة، وحل أزمات الفقر، والصرف الصحي، ومياه الشرب، والرعاية الصحية .. الخ، وبالتالى يتعين ضبط العلاقة بين المواطن والدوائر الحكومية، وجعل الموظف عاملا مساعدا وليس معوقا. أخيرا فإن المبادرة ثورة تأخرت لكنها جاءت ونرجو تعهدها والبناء عليها فهى ركيزة التنمية والنهضة. [email protected] لمزيد من مقالات محمد إبراهيم الدسوقي;