الصورة كفيلة بأن تجعلك تكسب أو تخسر معركتك بامتياز، وكم من صورة حشدت خلفها زخم الرأى العام لمناصرة قضية بعينها، وكانت سببا فى تغير مواقف وسياسات محلية ودولية، فإعلان هزيمة الولاياتالمتحدة فى فيتنام جسدته صورة مؤلمة لطفلة فيتنامية تهرول عارية بعد أن أحرقت النيران جسدها النحيل، وفى العراق السجين المعلق الموصول بالتيار الكهربائى بسجن «أبو غريب»، وتجلت بشاعة وسادية تنظيم داعش الإرهابى فى لقطة حرق الطيار الأردنى الكساسبة حيا داخل قفص حديدي، ومن قبلها ظهر الوجه القبيح للقاعدة من خلال مشهد ارتطام طائرة ركاب ببرجى مركز التجارة العالمى فى نيويورك. كل هذه الصور وغيرها محفورة فى الذاكرة الجماعية ولم ولن تغيب عنها، لأنها تختزل فى تفاصيلها الصغيرة والعميقة تاريخا طويلا عريضا من الأحداث والمآسى والتحولات، ودون استطراد نستطيع القول وبارتياح بالغ: إن مصر فازت باقتدار فى زيارة البابا فرانسيس بابا الفاتيكان للقاهرة قبل يومين. فعيون الجميع فى بقاع الأرض كانت مركزة ومسلطة على المحروسة بشغف منتظرة الصورة التى ستكون عليها زيارة شخصية دينية بوزن وقامة بابا الفاتيكان، الذى يُحسب ويُقدر له تمسكه باتمامها وفقا للجدول الزمنى المتفق عليه، بعد مراهنة كثيرين على أنه سيؤجلها، أو ربما يلغيها عقب تفجير كنيستى طنطا والإسكندرية، فماذا وجدت هذه العيون المترقبة ما إن صعد فرانسيس سلم الطائرة عائدا لروما السبت الماضي؟. وجدت ثلاث صور معبرة عن فيض من المعانى والدلالات الموحية، الأولى تُظهر البابا واقفا فى إحدى شرفات سفارة بلاده المطلة على النيل، التى أقام بها، يلوح للمارة ولأفراد الأمن والابتسامة تكسو وجهه، بدا الرجل مطمئنا لا يساوره القلق ولا يطارده شبح الخوف مما قد يتعرض له بوجوده فى مكان مكشوف، فهو يبعث برسالة أمن وآمان، وأنه مهما بلغت خسة ونذالة وعنف جماعات الإرهاب فلن تقدر على إضعاف وإخافة الدولة المصرية، وأن هذه الجماعات ستهزم لا محالة، فهى تخوض معركة خاسرة وباطلة بكل المقاييس ضد الدين والإنسانية والعقل والمنطق، لأن من يتجرأ على بيت من بيوت العبادة سواء كانت إسلامية، أو مسيحية، أو يهودية فهو مقطوع الصلة بجوهر الأديان السماوية الثلاثة ومفاهيمها الداعية للود والتراحم والاحترام المتبادل، فرب العزة لن يرضيه ولا يقر قتل أنفس بريئة طاهرة بدعوى التقرب إليه وابتغاء مرضاته، وإحداث فتنة بين الناس تباعد ولا تقرب فيما بينهم، وتؤجج البغضاء والعداوة بين أرباب هذه الديانات. الصورة الثانية عناق شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب وبابا الفاتيكان تحت قبة مشيخة الأزهر، فالرجلان سبق لهما الالتقاء، ولم يكن عناقهما على سبيل المجاملة وإكرام الضيف العزيز الذى يرأس الكنيسة الكاثوليكية البالغ عدد اتباعها قرابة المليارى نسمة، لكنه عبر عن اعتزاز وتقدير لمكانة الأزهر ودوره فى مصر والعالم الإسلامي، وأنه رمانة الميزان القادرة على وقف زحف الفكر التكفيرى وتجفيف منابعه المؤدية للإرهاب والعنف، وقطع الطريق على دعاة الفتن الطائفية والاستعلاء ومخاصمة المواطنة، والتقليل من شأن الآخر والحض على كراهيته ونبذه لكونه مختلفا معى فى العقيدة والتوجه الفكرى والإنسانى. فصورة القامتين الكبيرتين تُظهر الاتفاق لا الاختلاف، وأن الحوار هو لب الأديان جميعا، وأن الله عز وجل يدعو للود والتفاهم والكلمة السواء من أجل خير وسعادة البشرية جمعاء، وأن الفاتيكان والأزهر يعتزمان الإبقاء على تشابك ايديهما ومواصلة التحاور بغية البحث عن الجوانب المشتركة وليس الإيغال فى التنقيب عن الاختلافات بين الطرفين، فالمشترك كفيل بتقريب المسافات ووجهات النظر، لا سيما فى وقت تكابد وتتألم فيه مصر من جرائم الإرهابيين وازلامهم وداعميهم، والألم والمكابدة يمتد لأوروبا التى عششت فيها بعض البؤر الإرهابية الساعية لتقويض المجتمع ومحاربته رافعين راية نصرة الإسلام وإعلاء شأنه، وأعلنوا الحرب على الأنظمة القائمة فيها، تلك الأنظمة التى فتحت لهم الأبواب واحتضنتهم بعدما خرجوا من بلادهم طمعا فى مأوى آمن وفرصة عمل وبيئة تفتح الآفاق الرحبة للمبدعين والمتميزين والمطاردين بصرف النظر عن اصلهم وفصلهم ودينهم، والآن وبعد أن تمكنوا وأصبحوا مواطنين يحملون الجنسية البريطانية والفرنسية والبلجيكية .. الخ اكتشفوا فجأة أنهم فى دار حرب ويسكنون وسط « الكفار»!!. الصورة الثالثة الصلاة الجماعية لممثلى الطوائف المسيحية فى الكاتدرائية المرقسية بالعباسية، وتوقيع وثيقة تاريخية بين الكنيستين الأرثوذكسية ممثلة فى البابا تواضروس والكاثوليكية للاعتراف بمعمودية كل كنيسة لدى الأخرى بما يعزز تنحية الخلافات بين الكنيستين جانبا. الطرفان كانت أعينهما أيضا على المشترك الذى يجمع ولا يفرق بينهما، وأنه لا مجال ولا متسع للتشدد والتزمت، إذ ان السلام والوئام العالمى لن يتحقق سوى بالايمان بتكامل الأديان وبالوحدة بين المسلمين والمسيحيين من جهة واذابة الخلافات بين الطوائف المسيحية من جهة ثانية، وجزء من الحدث يدحض تماما ما تروج له بعض الأصوات المتطرفة بخصوص اضطهاد الأقباط فى مصر، ومحاولة تفريغ البلاد منهم، فالبابا فرانسيس جاء وشاهد بنفسه ما هم فيه واستمع إليهم وتبادل معهم حديث التسامح والسلام والمحبة، وتبين أنهم قطعة اصيلة من النسيج الوطنى المصري، وأن الإرهاب الغاشم لا يفرق بين مسلم ومسيحي، وأن الهجوم على كنيستى طنطا والإسكندرية سقط فيه مسلمون، وأن التجربة تقول إن التعايش بين المسلمين والمسيحيين هو السائد، وأن الدعوات الصادرة عن متطرفين لا تعبر عن مجمل الشعب المصري. لقد اجتازت مصر بنجاح اختبار زيارة بابا الفاتيكان الصعب، ويتبقى لها اختبار آخر أكثر صعوبة هو كيف يمكنها الإبقاء على هذه الصور الثلاث الإيجابية وغيرها مطبوعة فى الذاكرة المصرية والعالمية، فى وقت نخوض فيه حربا إعلامية مريرة لتشويه صورتنا الذهنية فى المحافل الدولية، وكيف سنستثمرها ليس فقط سياحيا كما يطالب بعضنا ولكن سياسيا واجتماعيا ودينيا بهدف ترسيخ قواعد دولة المواطنة والتسامح، وأن مصر كانت وستظل حاضنة آمنة للأديان؟. [email protected] لمزيد من مقالات محمد إبراهيم الدسوقي;