ثمة متغيرات ومؤثرات اجتماعية ضاغطة نجحت فى تحويل بعض محافظات الصعيد إلى أهداف مغرية ورخوة للتطرف والتشدد فى أعنف مستوياته، وهو ما بدا من اكتشافنا أن منفذى تفجيرات كنيستى طنطا والإسكندرية أخيرا كانا من سكان محافظة قنا الوديعة، وأنهما اعتنقا الفكر التكفيري. رد فعلنا الفورى الجاهز على صدمة الاكتشاف السابق تركز بالأساس فى تكرار مقولات معلبة محفوظة عن ظهر قلب ولا تتغير، مثل أن الصعيد يعانى من الحرمان الاقتصادى والخدمي، وأن هذا الحرمان يوفر بيئة خصبة ودافعا لانجذاب الشباب للجماعات الدينية المتطرفة التى تغريهم بالمال وتستغل شحنات الغضب المتفجرة داخلهم لإقناعهم بالانتحار وقتل الأنفس البريئة من المسلمين والمسيحيين، وأن صعيدنا ينبذ العنف والإرهاب. نكرر هذه المقولات وغيرها بدون الاستناد إلى دراسات وبيانات موثقة من مصادر موثوق فيها، تتوخى المعايير العلمية الصارمة فى عملها، لإيضاح مدى اثرها الفعلى على اهل الصعيد وتفكيرهم، وظنى أن البعد الاقتصادى رغم حيويته البالغة ليس هو المسئول الرئيسى عن النزوع الصعيدى للتطرف الدينى بدليل أن بعض عناصر التنظيمات الإرهابية من عائلات ميسورة الحال ولم يكونوا عاطلين عن العمل، فلا يوجد ما يبرر اتجاههم للايمان بأفكار تكفير المجتمع، وجواز قتال الشرطة والجيش، واستحلال تفجير المنشآت العامة وخلافه. اما عن السبب الاساسى فسيكون فى البعد الاجتماعى وهو المحور المفقود فى سعينا للوصول لبر الحقيقة ومعرفة دوافع التطرف حتى نتغلب على الإرهاب ودعاته، ونسبقهم بخطوة بل بخطوات تجعلنا نزيل مسببات انتشار التشدد والغلو، ونحرمهم من مساحات شاسعة يمرحون فيها كيفما شاءوا، فالمواجهة لها شقان، أحدهما اجتماعى وهو الأصعب والأطول مدي، والآخر أمني. فالصعيد طرأت عليه تغيرات اجتماعية ونفسية كبيرة فى السنوات الماضية كانت سببا فى تغير شكل العلاقات بين أهله، وتراجع مكانة مفاهيم التسامح والحوار وقبول الآخر والتعايش المشترك لتستبدل بالتشدد وإقامة الفواصل والعوازل بين المسلمين وبعضهم البعض من جهة، وبين المسلمين والمسيحيين من جهة أخري. فأرباب الجماعات الدينية باختلاف مقاصدها ودعواتها سواء كانت سلفية، أو اخوانية، أو جهادية، أو تكفيرية يرسمون فى معظم الأحيان خطا فاصلا مع محيطهم الاجتماعى القريب والبعيد فيما يشبه «الجيتو» فهم لا يتعاملون ولا يتسامرون ولا يرتاحون سوى مع أعضاء جماعاتهم، وينعزلون عمن سواهم فكريا ونفسيا، وستلاحظ أنهم يخصصون لأنفسهم مساجد وزوايا بعينها يؤدون فيها صلواتهم ويعقدون فيها اجتماعاتهم ومنتدياتهم، ويفرضون على بناتهم وأخواتهم وأمهاتهم ارتداء النقاب بوصفه الحجاب الشرعي، ولا يشاركون العامة احتفالاتهم وطقوسهم المعتادة فى الريف الا فيما ندر من باب التخفى وإظهار خلاف ما يبطنون، ولصرف الأنظار عنهم. المعتدلون من بينهم إن وجدوا ينظرون لمَن حولهم على أنهم على غير هدى وتتفاوت درجة مطالبتهم بالانعزال عنهم ومجاهرتهم بذلك، لكن النتيجة المؤكدة أنهم منفصلون تماما عن محيطهم وغير مندمجين فيه، وهم يربون أولادهم وبناتهم باعتبارهم من الخاصة المتميزين وسط مجتمع لا يقدر الإسلام ويلاحق الملتزمين بتعاليمه وقواعده. ففى محافظة الفيوم هناك قرى بكاملها يسيطر عليها التكفيريون وتعيش عائلاتها فى عزلة تامة، ولا يتزوجون الا من بينها، وفى قنا وجد التكفيريون موطئ قدم. يحدث هذا بين المسلمين وبعضهم البعض، فما بالك بالضفة الأخرى من النهر؟ فالأسوار تقام بين عنصرى الأمة اللذين عاشا جنبا إلى جنب فى الصعيد وخارجه فى وئام بدون مشكلات أو التهابات واحتقانات، فالكتلة الوطنية كانت متماسكة وقوية، لكنها بفعل التحولات الاجتماعية أصابتها الشروخ ونزلات البرد المزمنة، فالهشاشة أصبحت سمة طاغية، فالشرارة فى وضع استعداد دائم للانطلاق عند اى منعطف، وأقل حادثة. ففى المنيا على سبيل المثال تكثر الحوادث والاحتكاكات الطائفية مع هبوب اى رياح ولو ضعيفة، وفى بعضها يدهشك الغياب الكلى للموروثات المتعارف عليها عن الصعيد، كالشهامة وحماية الضعيف .. إلخ، لأن العلاقات الاجتماعية اهتزت واصابها التصدع والوهن. إن صعيد الألفية الثالثة ليس كصعيد القرن العشرين ونظرتنا له قديمة، ويلزم بذل جهد فائق لفهم النسخة الجديدة منه وما استجد فيها من متغيرات جذرية، وإن بحثت عن رصد واقعى وعلمى للتغيرات الاجتماعية فى صورة دراسات وأبحاث يعتد بها فلن تعثر عليها للأسف الشديد، لأنها لم تعد من الأصل، ولا أدرى أين يقف المركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية ومعه بقية مراكزنا البحثية من هذه القضية ومدى اسهامها فى استيعاب الواقع الاجتماعى الجديد للصعيد. نحن نريد خريطة للمستجدات الاجتماعية فيه، ونظرة الناس لبعضهم البعض، وأساليب التربية والتنشئة للصغار، والتعليم وجودته وهل يرسخ لقيم التسامح والود والتراحم والمواطنة، أم تراه يرسخ لأشياء أخرى ضررها أكبر من نفعها، ودور التعليم الموازى فى المساجد والكنائس والمراكز التعليمية الخاصة، وكذلك طبيعة التركيبة السكانية وما شهدته من تحولات، وليت سيد عويس رائد علماء الاجتماع كان بيننا ليسهم فى كشف ما استغلق علينا من ألغاز الصعيد. وهناك دور غائب للأدب والسينما فى معالجة قضايا الصعيد الجديد، فأين الروايات والكتب والأفلام الموضحة والعاكسة لهذه الجوانب؟ لن تجد عملا كيوميات نائب فى الأرياف التى ابدعها توفيق الحكيم، ولن تعثر على فيلم يناقش الموضوع بجدية وسط كم هائل من الأفلام التافهة البلهاء، لقد كان الصعيد منتجا لثلة من النجباء العظام فى النخبة المصرية، فماذا ينتج لنا الآن؟ [email protected] لمزيد من مقالات محمد إبراهيم الدسوقي;