اليوم هو عيد القيامة وهو عيد هزيمة الموت وانتصار الحياة، هو عيد الخلود ورجاء البشرية ضد الفناء، وهو عيد مفرح بكل معانيه يعطى رجاءً ضد كل ما نعانيه. ولكن ما حدث يوم أحد السعف سرق الفرحة، فكيف يمكننا أن نفرح ونحن نرى أوطاننا يسكنها الموت والخراب. وبالرغم من أن القيامة عقيدة تلغى فكرة سيطرة الموت لكننا قلوبنا تعتصر إذ نرى الدماء على جدران كنائسنا وآثار الأشلاء لا تزال فى شوارعنا.فى يوم الأحد الماضى كان كل شىء معدا للفرح كانت الشوارع مبتهجة بالأطفال والكبار الذين يحملون السعف وهم فى طريقهم إلى الكنيسة، والكنائس تبتهل بألحان الصلاة والورد والسعف تزين كل جوانبها. وها هى أيام ونحتفل بالقيامة وتجوب الفرحة البيوت والكنائس والشوارع، ثم يأتى اليوم التالى للقيامة وعيد شم النسيم يخرج المصريون للحدائق وتسمع الضحكات فى ربوع مصر، وتسمع الموسيقى والأغانى فى الشوارع والطرقات. وهو عيد صنعه المصريون القدماء ليتحدوا الموت فكل رموزه تعنى الحياة الجديدة بداية من الورد والحدائق مروراً بالأكلات، البصل الذى هو ضد المرض، والخس والملانة الخضراء التى تعنى الحياة المتجددة، والأسماك المملحة التى تتحدى فكرة الموت.فكان كل شيء معدا للفرح ولكن ما حدث هو بقعة دم على ثوب العيد. يدخل إلى الكنائس أشخاص كان المفروض أنهم أخوة لنا، وكان المفروض أنهم تربوا معنا وفى بيوتنا، ولكنهم امتلأوا كرهاً وبغضا فقد سلموا عقولهم وأرواحهم لجماعة لا تزال تسكن أوطاننا، ولا تزال تفخخ عقول شبابنا ليحولوا الأخضر إلى يابس، والحياة إلى موت،ويهدموا الوطن. ولم يملأوا العقول فقط بالكراهية ولكنهم ملأوا الأجساد أيضاً متفجرات ليدخلوا إلى كنائس ويفجروا أنفسهم فى إخوانهم فى الوطن الراكعين الساجدين الذين يبتهلون للإله وهم صائمون وعيونهم مرفوعة إلى السماء تصلى وتطلب مراحم الله وخيراته، تطلب السلام. لم يكن هؤلاء الذين فى الكنائس يحملون سلاحاً ولا فى قلوبهم كرها، بل كانت كل كلمات صلواتهم حباً للإله وللإنسانية. ثم يفجر نفسه ليحقق غاية هى الموت والدمار لتتعرى إنسانيتهم، ليحجب نور الشمس، ليذبح بسكين الكراهية أطفالا ونساء، شبابا وشيوخا يسقطوا أشلاء ودماؤهم تصرخ فى هذا الذى دخل ليذبحهم لماذا؟! هل أتيت إلى كنائسنا تنشر الموت؟ بأى عقيدة تؤمن، وبأى دين تدين؟وبأى صورة تقترب إلى إله الحب؟ كيف يمكنك أن تقف أمام الله بعدما ذبحت الأبرياء؟ وتنتشر رائحة الموت ودماء الأقباط تغطى جدران الكنيسة وأرواحهم تصعد إلى السماء لتدخل إلى الأمجاد، أما نحن فلم نعد نستطيع أن نفرح فقد ذبح الليل بظلامه شمسا كانت قد أشرقت، ودخل الموت إلى كنائسنا بيوت الله أماكن العبادة والحياة من خلال هؤلاء الذين يريدون أن يحولوا العالم إلى مقبرة كبيرة، وينشروا مرضا هو الكراهية هو سرطان فى جسد الوطن، ويحولوا الأطفال والشباب إلى ذئاب مفترسة، هؤلاء احترفوا ثقافة الكراهية ونشروها وعلموها تحت سمع وبصر الجميع. فكم من مرة حذرنا من تلك الثقافة وهذه التعاليم، وكم من مرة صرخنا فى كل أجهزة الدولة أن ينتبهوا لهذه الثقافة وأن هناك من يعلم بتكفير الآخر أيا كان. هناك من يحض على الكراهية وأن هناك تيارا صار يسكن فى كل مفاصل الوطن حتى السياسيين، وأن مواجهة هذا التيار واجبة.ولم نكن ندافع عن أنفسنا كمسيحيين ولكن كنا ندافع عن الوطن، كنا نرى كما يقول الرئيس دائماً إن قوتنا فى وحدتنا وأن كل ما يفرق بيننا يريد هدم الوطن. ولكن يبقى السؤال لماذا تركنا هؤلاء يفخخون العقول ويسممون القلوب؟! فنحن دائما نعيش معاً ونواجه كل الصعاب معاً وهذه دائما كانت سر قوتنا. فى أيام ثورة 1919 جاء المندوب السامى البريطانى إلى البابا كيرلس الخامس يساومه على حماية الأقباط فى سبيل مساعدة الإنجليز وقال له البابا:«يا ابنى المسلمون يعيشون جنبا إلى جنب مع الأقباط فى بيت واحد يأكلون معا ويشربون من نيل واحد، ولن نطلب الحماية إلا من الله وعز مصر». وحينها كان شعار «الدين لله والوطن للجميع» يردده كل المصريين، وكان شعار مصر الهلال والصليب. وهذا ما كان يزعج الاستعمار. وحين بدأ تيار الإخوان المسلمين كانوا دائما يحاولون أن ينشروا الكراهية ضد الأقباط، وصنعوا مذبحة السويس ضد الأقباط فى يناير 1952 حين اختطفوا أقباطا وذبحوهم وأحرقوهم داخل الكنيسة. وحين استشعر الرئيس جمال عبد الناصر خطورتهم وواجههم بحسم أشاعوا أن هزيمة مصر عام 1967 هى غضب من الله نتيجة مواجهتهم. وللأسف اقتنع البعض بهذه الأفكار. ثم أخرجهم الرئيس السادات ليصنع توازنا مع التيارات المعارضة له وسمح لهم بالعمل العام.وبدأوا فى نشر أفكارهم وخرجت من عباءاتهم كل الجماعات التكفيرية فكان الأقباط دائماً الذين يدفعون الثمن بجانب الجيش والشرطة. وتراجع مناخ الاستنارة الذين كانت تنعم به مصر فى بداية القرن العشرين الذى كان نتاج عمل وجهد كبير حتى إن الشيخ محمد عبده يقول: «ليس فى الإسلام سلطة دينية سوى سلطة الموعظة الحسنة، وأن الحاكم مدنى بكل الوجوه» ويقول أيضاً:الإسلام لم يجعل أدنى سلطة على العقائد ولا يسوغ لأحد أن يدعى حق السيطرة على إيمان أحد أو عبادته لربه (الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده دار الشروق صفحة 106، 108). ويقول عالم الاجتماع «هرتن ويزلى»:«حين تضعف رابطة الفرد بالمجتمع ينتج عنها مجرمون». وهذا يعنى أن ضعف دور المجتمع بكل أدواته وآلياته يعطى مساحة لمجتمعات موازية بقوانين أخرى وهذا سبب ظهور هؤلاء المتطرفين والمجرمين. فإذا أردنا إصلاح المجتمع علينا بإصلاح التعليم والثقافة والأسرة والخطاب الدينى والقائمين عليه، فكل هذه حين يضعف تأثيرها تظهر تلك السلبيات. فحتى لا نستيقظ غداً على دماء جديدة وحتى لا يدوم الليل والجهل والكراهية يجب أن نواجه هذه الأمور بحسم. فهؤلاء الذين عاشوا معنا كانوا غرباء عنا سرقوا أرواحنا، سرقوا أفراحنا، وتركوا لنا أحاديث الشجن. ولدوا فى بيوتنا ولكنهم صاروا قساة القلوب،امتلأت نفوسهم بالحقد والكراهية، أخفوا فى جعبتهم سكيناً قتلوا بها أبرياء ليس لشيء سوى إرضاء لفتاوى وتعاليم آخرين. لهم ملامح مثلنا ولكن كل ما فيهم مختلف عنا، إنهم وحوش وقلوبهم حجرية لا تنبض بالحب.وعلى أى حال كنا نريد أن نقول كل عام وأنتم طيبون، ولكن هذا العام يجب أن نقول كل عام ونحن صامدون، كل عام ونحن ندفن شهداءنا ونعود لنبنى أوطاننا. كاهن كنيسة المغارة الشهيرة بأبى سرجة الأثرية لمزيد من مقالات ◀ القمص أنجيلوس جرجس