وعن مذهبى فى الحب ما لى مذهبُ وإن ملتُ يوماً عنه فارقت ملّتى [ابن الفارض. التائية الكبري] مع كل عيدٍ ذبيحة، ومع كل احتفالية مسيحية تفجيرات جديدة، أعياد الميلاد يتحول جسد المسيحى إلى أشلاء وقطع متفرقات بفعل السياسة والخطابات المفخخة، ولايزال الناس يستغلون الحدث للتخوين وتبادل الشتم والمسبات، من العنف المجسّد إلى العنف القولى يصبح الناس فى بلادنا صرعي، وكل حديث عن التسامح والمحبة يبدو حديثًا رومانسيًا وحالمًا أكثر منه مبدأ وقيمة يمكننا تفعيله فى الحياة. تتكرر الأحداث التى تهدر الإنسان من خطف وقتل وتهجير وملاحقة وتهميش، وبعض الناس مخلصون لمبادئهم يعملون عليها فى صمت ولا تزحزحهم الأحداث عن إيمانهم، بل تحضّهم على المزيد ولا يخالفون وثيقة كُتبت بدم القلب ونبض الفعل المستمر، من ذلك راهب مسيحى يجلس فى الزمالك على مقربة من ميدان التحرير منذ أكثر من ربع قرن يعمل على قراءة النصوص الصوفية ويعيش مع تراث المحبة، ويستلهم من تجليات الأدب الصوفى ويفعّله فى حياته. يرتبط اسم جوزيبى سكاتولين بالشاعر الصوفى المعروف بسلطان العاشقين ابن الفارض، كما ارتبط اسم المستشرق الفرنسى لويس ماسنيون بحلاّج الأسرار، كان ماسنيون أكثر حضورًا فى عالمنا العربى من بغداد إلى القاهرة ارتحل متابعًا مسيرة الحلاج من تركيا إلى إيران إلى الهند إلى الشام ومصر، وأثارت كتاباته جدلاً واسعًا فبعضهم يجعله أهم مستشرق فى العصر الحديث درس التصوف الإسلامى ويعد بمفرده تجربة فريدة فى الحوار بين الأديان، وبعضهم يراه وجهًا من وجوه الاستعمار والتبشير، ومن هؤلاء هادى العلوى وأبو يعرب المرزوقي. فى دير كومبونى Comboni بالزمالك جرت بيننا أحاديث مع الأب سكاتولين أذكر منها حديثًا عن السماع الصوفى حرص الأب فيه على تأكيد أن ما نراه اليوم من جلسات السماع بعيد كل البعد عن الفعل الصوفى الحقيقي، فالسماع عند الصوفية لون من ألوان الذّكر لا يمكن تجاهل تلاوة قراءة القرآن فيه، كما لا يقتصر على الرقص. بدت رؤية سكاتولين محافظة للغاية؛ لكن ما يقوله يعبر عن تقليد صوفى عريق غُيب فى ظل الاهتمام الشكلى بالتصوف، كان الأب يشرح ما تعلمه وشاهده من خلال رحلاته وأسفاره بشكل بسيط. نموذج آخر من النماذج الحيّة التى تؤمن بالتعددية وتطبّقها فى حياتها العلمية والعملية أبّ مسيحى من أصول إفريقية يحبّ دائمًا أن يردد فى سماحة وصدق (أنا أحب مصر وأريد أن أموت فى مصر) عرّفنى به مسلمٌ يعيش فى جوار الفاتيكان ويعلّم الطلاب فى المعهد البابوي، كان الأب فردريك قد حمل بعض الكتب فى زيارته الأخيرة لعدنان المقرانى ومن هنا توطّدت صلتى به وطالت الأحاديث بيننا فيما يتعلق بالإسلام ونظرة العلماء إلى الأديان الأخري، وانخرطنا معًا فى قراءة نصوص تتعلق بأوجه التعددية الدينية فى التراث الإسلامي، وسافرنا عبر جغرافية الإسلام إلى نصوص فارسية وعربية. لا أريد هنا أن أشير إلى العلماء القدامى أو المعاصرين المنفتحين على الأديان الأخري، وأقف عند تجربة الأب نفسه فى الدين والحياة، نظرًا لعدم إمكانية حدوثها فى مجتمعنا المصرى الذى يتحدث عن التسامح والمواطنة والإخاء ليل نهار! قبل وقت قصير التقيت بأخت الأب فردريك وهى أستاذة مسلمة! تدرّس علوم اللاهوت المسيحي، وتقرأ النصوص المسيحية واليهودية فى لغاتها القديمة، يمكنها فعل ذلك بحكم التخصص لكنها لا تتقن العربية فتقرأ معانى القرآن حتى هذه اللحظة فى اللغة الإنجليزية! فى الوقت نفسه يستطيع أخوها فردريك أن يقرأ القرآن باللغة العربية، نظرًا لاختصاصه فى درس الإسلاميات، وإن كان لا يتقن لغات العهد القديم والجديد. اندهشت قليلاً حينما التقيت بهما وجمعنا حديث حول نظرة المسلمين إلى الكتاب المقدّس، لم تكن الأخت مشغولة بما يقوله الكتاب المقدس عن النبى محمد، فيما أصر الأب أننا لا يمكن أن نهمل هذا الحديث الطويل فى الأدبيات الإسلامية عن ذكر الكتاب المقدس لمحمّد. استفسرت من الأب فردريك عن التعددية الدينية فى أسرته وكيف حدث ذلك؟ أجاب أن هذا يحدث كثيرًا فى البلدان الإفريقية ويتعايش معه المجتمع دون مشكلات تذكر. ونحن صغار كنا نذهب إلى المسجد والكنيسة نحضر عظة الأحد وخطبة الجمعة، ومع الوقت اختار كلُّ واحدٍ منّا ما رأى نفسه فيه، ولم يمنعنا الاختيار عن الاستمرار فى المحبة والتعايش. ما يراه الأب بسيطًا فى بلده يعد كارثة فى بلادنا إن حدث ولو لمرة، فالتحول إلى الإسلام أو المسيحية ليس اختيار فرد يمرّ بسلام، بل يمكن أن تحرق القرى وتقتل الأفراد وتدمر عائلات كاملة ويكون السبب الرئيسى لكل هذا أن فلانًا أو فلانة كان معتنقًا لدين وانتقل إلى غيره! لمزيد من مقالات خالد محمد عبده