لم أتخيل للحظة واحدة أن أعود إلى موضوع صنع القرار فى مصر بهذه السرعة . كتبت فى الموضوع على هذه الصفحة مرتين، آخرهما منذ أسبوعين وكان المضمون فى الحالتين واحدا : أن عديدا من القرارات المهمة المتعلقة بحياة الناس تتخذ على نحو غير مدروس، بدليل التداعيات السلبية لهذه القرارات التى سرعان ما تفضى إلى التراجع عنها ، وما يحيرنى حقا أن مصر اتخذت فى تاريخها القريب قرارات عملاقة ناجحة يُذهل المرء من النهج المدروس الذى أُعدت به، وأكتفى هنا بقرارى تأميم شركة قناة السويس وحرب أكتوبر، فكيف ننجح فى صنع هذه القرارات المصيرية ونعجز عن اتخاذ قرارات فى قضايا أقل تعقيدا بكثير ؟ وبطلنا اليوم هو القرار 800 لسنة 2016 والذى صدرت لائحته التنفيذية فى ديسمبر الماضى والقاضى بزيادة رسوم الخدمات ومقابل الانتفاع والتراخيص فى الأنشطة الملاحية البحرية ، والجديد هذه المرة أن مصدرا مسئولا أعلمنا بأن القرار تمت دراسته لأكثر من عامين وأن حواراً مجتمعياً قد أُجرى مع كل الجهات المرتبطة بالقرار من غرف تجارية وملاحية مختلفة، وأن الرسوم التى تمت زيادتها لم تزد منذ أربعة عشر عاما، وهكذا نكون هذه المرة إزاء قرار قُتل بحثا واستشيرت فى صنعه مختلف الأطراف المعنية فما الذى يمكن فعله أكثر من هذا ؟... ولكن المشكلة أن الجهات التى قيل إنها أُشركت فى الحوار حول القرار قبل اتخاذه وهى غرف التجارة والملاحة اعترضت كلها، وردت الوزارة بأن المنادين بإلغاء القرار يجنون الكثير من الأرباح وأن أعمالهم لن تتأثر بزيادة الرسوم كما يدعون ، وعند هذا الحد كان المرء على استعداد لأن يقبل وجهة نظر الوزارة بأن الاعتراضات لا تعدو أن تعكس نظرة مصلحية، أنانية ومع ذلك فإن الأمر لم يكن بهذه البساطة فقد أثار المعترضون مسائل جديرة بالنقاش منها مثلا أن القرار يخرج الغالبية العظمى من شركات الأشغال والتوريدات البحرية والمهن المرتبطة بالنقل البحرى من السوق، لأن معظمها كيانات صغيرة ومتناهية الصغر ولن تتحمل الأعباء الجديدة التى يفرضها القرار، خاصة فى ظل تراجع نشاط الملاحة عالميا ، لكن ما لفتنى تحديدا كان الحديث المبكر منذ صدور القرار عن تأثيره على تنافسية الموانئ المصرية، وقد ذكر رئيس مجلس إدارة غرفة ملاحة بور سعيد أن زيادة الرسوم جعلت الموانى المصرية وبالذات فى بور سعيد من الأغلى بين موانى البحر المتوسط مما يؤدى إلى تراجع عدد السفن المترددة عليها وينذر بهروب الخطوط الملاحية إلى موانى أخرى ، ومن الأهمية بمكان أن هذا الكلام نُشر فى الرابع من يناير الماضى أى قبل شهرين ونصف الشهر من كارثة انسحاب عدد من التحالفات والخطوط الملاحية وشركات النقل البحرى العملاقة من ميناء شرق بور سعيد التى علمنا بها فى العشرين من هذا الشهر ، وقد نقلت هذه الشركات تعاملاتها إلى ميناء بيريه اليونانى وموانى أخرى فى مالطة وإسرائيل والسودان ، وقدر البعض خسائر ميناء شرق بور سعيد بنصف إيراداته ناهيك عن زيادة البطالة ، وقد قارن وكيل أحد الخطوط الملاحية الكبرى المنسحبة بين الرسوم التى تدفعها السفينة حمولة 16-20 ألف حاوية فى شرق بور سعيد ومثيلتها فى بيريه، حيث تبلغ الأولى مائة ألف دولار والثانية أربعين ألفا كما أن مصاريف مناولة الحاوية الواحدة تبلغ ثلاثين دولارا فى بور سعيد ولا تتجاوز ثمانية عشر فى بيريه ! وبعد ذلك يتحدثون عن أن القرار كان بهدف (مواكبة الأسعار العالمية) ! ويلفت أحد المصادر لسوء توقيت القرار حيث جاء فى وقت تراجع كبير لسوق الملاحة نتيجة انخفاض حركة التجارة العالمية، فكان المفروض أن تقدم الحكومة تسهيلات للشركات لا أن تُزيد الرسوم . تستمر أبعاد النموذج المقلوب بمكابرة تدعو للكمد فتسارع مصادر رسمية لنفى أن يكون قرار زيادة الرسوم هو السبب فى الكارثة، فالتحالف الذى انسحب وفقا لهذه المصادر فعل ذلك لأنه أصبح يخضع لمتغيرات أخرى بسبب الأوضاع السياسية وإحصاءات التجارة العالمية التى انكمشت وهو تبرير غامض لا يعنى شيئا محددا فضلا عن أن الحديث عن انكماش التجارة العالمية يؤيد ما قيل عن سوء توقيت القرار ، وبعد المكابرة يأتى التراجع كالعادة، فلو كان صحيحا أن قرار زيادة الرسوم غير مسئول عن كارثة الانسحاب لماذا إذن حديث هذه المصادر نفسها عن إجراء الدراسات لضمان منافسة الموانى المصرية ولماذا يتحدث وزير النقل عن أن الفترة المقبلة ستشهد دراسة شاملة وسريعة للقرارات بما يخدم الاقتصاد المصرى والمستثمرين وجميع المشاركين فى الخدمات الملاحية وحركة التجارة، ولماذا بدأت هيئة الرقابة الإدارية فى عقد جلسات استماع لوكلاء الخطوط الملاحية ومحطة حاويات شرق بور سعيد لبحث أسباب كارثة الانسحاب ولماذا تصرح مصادر مطلعة بأن الهيئة وجهت الدعوة لغرف الملاحة والتجارة وجمعيات رجال الأعمال فى حضور ممثلين عن هيئة قناة السويس والمنطقة الاقتصادية وقطاع النقل البحرى للتعرف على اقتراحاتهم لتعديل القرار ؟ وكلها خطوات كان المفروض أن تتم من قِبَل الجهات التى أصدرت القرار والتى قالت إنها فعلت ذلك، وإن كان الموقف الرافض لهذا القرار من الجهات المعنية به يشير إلى أنها لم تأخذ آراء هذه الجهات فى الاعتبار ، وعندما تتم المراجعة والتصحيح إن شاء الله يبقى السؤال عن إمكانية استعادة الخطوط المنسحبة أم أن الخسارة لا رجعة فيها وكيف يكون الحساب والاستفادة من الدروس التى تتكرر دون جدوى ؟ وبالمناسبة فقد تواكبت كتابة هذا القرار مع أزمة محتملة جديدة بسبب قرار تشريعى هذه المرة وهو قانون الهيئات القضائية .. فاللهم ثبت عقولنا . لمزيد من مقالات د. أحمد يوسف أحمد