حرية التدين والعقيدة والإيمان، هى جزء من كينونة الإنسان الحر، وميلاد الفرد كإرادة ومشيئة وخصوصية وضمير، ملاحظة أن الإسلام كديانة وعقيدة ومبادئ وقيم، جاء بهذه الحرية الدينية فى قيمه ومعاييره العليا، لأنه لا يجبر أحدًا على الدخول فى دائرة الإيمان به عقيدة وشريعة وقيمًا ولا على البقاء داخله دون إيمان عميق مستقر فى العقل والروح والوجدان والعمل ويرفض وفق شيخنا الجليل المرحوم عبد المتعال الصعيدى استباحة ما يفعله بعضهم لأنفسهم "إقامة جواسيس على الناس فى عقائدهم، مع أن العقيدة سر بين الله والعبد، وهو وحده الذى يعلم أمرها، لأنه لا يطلع على سر القلوب غيره، ولا يصح أن يكون لغيره حكم على هذا السر، وإذا كان قد حصل فى الإسلام، بعض من هذا التجسس، فإنه لم يحصل إلا فى عهود الطغيان الذين يبرأ فيها الإسلام، ولا يصح أن يؤخذ عليه منها ما حصل فيها من المآسي، وإنما إثمها على الطغاة الذين استباحوها لأنفسهم، والله تعالى برىء منهم ومن عهودهم". (من كتاب توجيهات نبوية، ط2، ص 27، مكتبة الآداب). الإيمان حالة بين الله سبحانه وتعالى وبين الإنسان، ومن ثم لا يحق لأحد أن يفتش فى ضمائر البشر، ومن ثم كانت ولا تزال حرية العقيدة هى أحد أبرز العلامات الكبرى للإسلام وقيمه العليا، على نحو ما أشار إليه كبار مشايخنا العظام عبد المتعال الصعيدى ومحمود شلتوت وآخرون، فى كتاباتهم الفقهية الرصينة. من هنا أخذ المشرع الدستورى المصرى هذه القيمة واستصحبها معه فى وضع دساتير المرحلة شبه الليبرالية 1923، 1930، وذهب إلى أن حرية الاعتقاد مطلقة، آخذًا عن الدساتير الأوروبية الحديثة لاسيما البلجيكى والفرنسى لعدم تنافر هذا المبدأ مع القيم الإسلامية العليا، وفى ظل مجتمع ومجال عام مفتوح، ومجتمع يتسم بالتعدد الديني. ظل هذا المبدأ مستمرًا فى ظل الدساتير الجمهورية مع بعض الضوابط، ناحية ثانية شهدت مصر عديد من الانتهاكات والضغوط لهذا المبدأ والحق الدستورى الأصيل، فى ظل تمدد النزعة الدينية المتشددة والتى تنزغ إلى التكفير الدينى – فى غير مجالاته ومسوغاته وأسبابه-، وإلى التفتيش فى ضمائر الناس، وفى رفض الآخر الدينى والمذهبى وإقصاءه، ورفض مبادئ المساواة والمواطنة بين المصريين جميعًا بلا تمييز، وهى مبادئ جاءت بوثيقة المدينة، وأقرها كبار المشايخ المجددين. التف بعض الغلاة، والمتشددين على هذه المواريث القيمية الإسلامية العظمى، وأرادوا تسييد بعض الآراء الفقهية الموروثة وذات الطابع التأويلى الوضعي، واعتبارها هى التعبير الأوحد للمبادئ الإسلامية، ومن ثم أقاموا تعارضًا مفتعلاً بين الإسلام العظيم والعصور الحديثة وما بعدها، فى حين أن الإسلام يسر لا عسر وأن المساواة بين الناس، هى قيمة عليا، ومن ثم ذهب الشيخ الأكبر عبد المتعال الصعيدى إلى أنه "فلا ميزة فى الإسلام لفرد على فرد ولا لشعب على شعب بالنظر إلى الإنسان، لأنه لا نسب عند الله إلا النسب إلى آدم عليه السلام، وجميع بنى الإنسان فيه سواء، إنما يمتاز الفرد على الفرد والشعب على الشعب فى الإسلام بالعمل، فالبر التقى يمتاز عنده على الفاجر الشقي، وامتياز الأول على الثانى لعمله لا لنسبه، والمسلمون عنده خير أمة أخرجت للناس لأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وامتيازهم عنده بهذا العمل لا بأنسابهم، فإذا لم يعملوا بهذا وعمل به غيرهم فهو خير منهم، لأنه لا فضل عنده لعربى على عجمي، ولا لعجمى على عربى إلا بالتقوى "(المرجع السابق، ص 30). هذه القيمة العظمى هى جزء من القيم الإسلامية الفضلي، ومن ثم تبدو مساعى وأيديولوجيا التمييز الدينى والعرقى والقومى واللغوى والمذهبي، هى محاولة سياسية وفقهية وضعية للالتفاف على هذا المبدأ والقيمة والمعيار التى توجه الإنسان المسلم المؤمن، إلى ضرورة الإخاء الإنساني، والمساواة، وعدم التمييز، وحرية العقيدة وممارسة الشعائر الدينية. من هنا كانت دعوة الأستاذ الإمام الأكبر د. أحمد الطيب إلى مؤتمر المواطنة الذى عُقد أخيرا، وتم تأكيد أن "مصطلح المواطنة" هو مصطلح أصيل فى الإسلام، وقد شفت أنواره الأولى من دستور المدنية وما تلاه من كتب وعهود لنبى الله –صلى الله عليه وسلم- يحدد فيها علاقة المسلمين بغير المسلمين"، ويبادر الإعلان إلى تأكيد "أن المواطنة ليست حلاً مستوردًا، وإنما هو استدعاء لأول ممارسة إسلامية لنظام الحكم طبقه النبى - صل الله عليه وسلم - وفى أول مجتمع إسلامى أسسه، هو دولة المدنية ". من ناحية ثانية ذهب البيان المهم إلى "إدانة التصرفات التى تتعارض ومبدأ المواطنة، من ممارسات لا تقرها شريعة الإسلام، وتنبنى على أساس التمييز بين المسلم وغير المسلم، وتترتب عليها ممارسات الازدراء والتهميش والكيل بمكيالين، إزاء الأقباط ومحاولة إجبار بعض الفتيات على تغيير ديانتهن بالضغوط، أو تهجير الأقباط، وعلى الدولة وأجهزتها تطبيق القانون بحزم على هؤلاء ومن يساندونهم من الغلاة المتطرفين وتقديمهم للقضاء العادى وليس للمجالس العرفية التى تسهم فى إفلات بعض مثيرى النزاعات الطائفية من المساءلة والعقاب. وعلى الأستاذ الإمام الذهاب ومعه كبار العلماء والمفكرين إلى هذه المناطق المتوترة لتعريف الناس بدينهم الحق، وحقوق المواطنة والمساواة، وأن الحرية الدينية هى قيمة إسلامية عليا، عليهم الالتزام بها واحترامها، كما أنها حق دستورى واجب الاحترام والتطبيق بقوة أجهزة الدولة المشروعة وفى عزم وحزم. لمزيد من مقالات نبيل عبدالفتاح