نعم.. بكيت.. واسترسلت فى موجة من النهنهة التى لا تقتصر على سكب الدموع من المآقى بل يرتج منها البدن وتتلاحق الأنفاس حتى ينفطر كل الكيان! نعم مارست إنسانيتى وضعفي.. وسرحت فى مراجعة طويلة ودقيقة وتفصيلية مع ذاتى وأفكارى ومعتقداتى وسلوكي، ونعم أيضًا أحسست بالضآلة أمامهن وهن شامخات واضحات وطنيات واعيات عارفات حدود الصح وقيعان الغلط! نعم.. كنت أمام التليفزيون أشاهد أمهات وزوجات وبنات.. أى ثكالى وأرامل ويتيمات الشهداء منذ اليمن وسبعة وستين والاستنزاف وأكتوبر والإرهاب.. وأرقب السيسى ووزير الدفاع ووزير الداخلية والقاعة، فأدركت أن هذا الوطن سيبقى ما بقيت السماوات والأرض، طالما فيه نساء من هذا الطراز! وفيما كنت أمارس إنسانيتى وضعفى بالنهنهة فكرت فى الفصيلة التى يفترض أننى أنتمى إليها.. فصيلة الكلام بكل جماعاتها من مفكرين ومثقفين ومؤلفين وكتاب وصحفيين ومحترفى ندوات ومؤتمرات ووقفات للاحتجاج على السلالم فى المثلث إياه، الممتدة أضلاعه بين شوارع «ثروت وعدلى و26 يوليو ورمسيس»! ووجدت أن جرامًا من تراب شبشب الأم الثكلى التى لديها شهيد وبقى اثنان فى الشرطة والجيش، والابنة التى تيتمت ولم تتجاوز الخمس سنوات، يرجح أطنانًا من بغبغات مجمل تلك الفصيلة! سيقال على الفور هذا أسلوب شعبوى ديماجوجى رخيص.. وهذا إحساس متكرس لدى صاحبه بالدونية والتفاهة، ولا يجوز له أن يعممه على غيره، وسيقال غير ذلك، خاصة باللغة التى لا أجيدها، لغة أئمة النشطاء، ومع ذلك ورغمه سأبقى عند موقفى لأسائل نفسى أولا.. كيف تركنا أسرة.. ومثلها مئات إن لم يكن آلاف الأسر بغير العناية الواجبة خمسة عقود.. أى خمسين سنة.. ثم كيف صمدت هذه الأسرة المكونة من أرملة شابة لم تتجاوز الخامسة والعشرين من عمرها وطفلتين إحداهما لم تصل الخامسة، والثانية فى اللفة لاتزال، والأب ضابط شاب لم يتجاوز السابعة والعشرين.. وقيل لهم إنه مفقود؟! كيف أدركت هذه الابنة التى ما كان لها أن تكون بهذه القوة ورباطة الجأش إلا بوجود أم عظيمة بكل المعايير اسمتها الابنة بالشهيد الحي.. أدركت أن العريشوسيناء ليستا فقط ترابًا وطنيًا ولكنهما مثوى شهداء، منهم أبوها البطل الذى قضى نحبه هو وكتيبته بعدما أمر المجرم الشيطان ابن الشياطين شارون بدفنهم أحياء؟! ولذا كيف يتسنى لأى داعر عاهر من عبدة الأرباح والأموال وخدمهم من المنظرين والمقعرين أن يعانق الصهاينة وأن يمضى إليهم ويأتون إليه وأن تصل الدعارة والعهر ببعضهم أن يباهوا بعلاقاتهم الصهيونية؟! لقد وجهت الابنة البطلة بنت الأبطال الأفذاذ خطابها للرئيس وطالبته بأن تبقى العريشوسيناء لمصر وألا يفرط الوطن فيهما بحال من الأحوال، ورد هو بصوت خفيض فى درجته مدوٍ رهيب فى مدلوله بأن لا تفريط فى العريش! ومع ذلك نجد المأفونين يطالبون أو يلمحون بالتصالح مع أصل البلاء وجوهر الوباء الإخوان المسلمين، وكأن شيئا لم يكن؟! أمام كلمات الابنة.. ابنة الشهيد الذى استشهد يوم عشرة يونيو 1967 بعدما أمر شارون بدفن الكتيبة كلها أحياء لا بد مرة أخرى من فتح الملف.. ليس ملف ما حدث فى الأيام إياها.. ولكن ملف الشهداء ممن اعتبروا متوفين أثناء الأحداث مباشرة أو ممن وصفوهم بالمفقودين لتبقى أسرهم أسيرة معاناة لا يعلم مداها إلا هم بعد الله سبحانه وتعالى! إننى أذكر حال عمى عبد الحكيم الجمال سنة 1967، وقد عشت معه ومع أسرته ما حدث إثر فقد ابنه الأكبر وتحويشة عمره المقدم مهندس فؤاد عبد الحكيم الجمال، إذ أبلغوا أنه مفقود وبقينا فترة طويلة نسأل وتأتينا أخبار وحكايات وكيف أنه مع رجاله فى منطقة «المغارة».. ثم تبين أنه استشهد بعد سنوات من التعامل باعتباره مفقودًا.. وقد ترك زوجة وثلاثة أطفال.. فيما الذين راكموا الملايين بعد الانتصار هم من يشارك العدو الصهيونى فى كل مجال! إننى أولًا أحيى رئيس الجمهورية والقوات المسلحة أن تم تذكر وتكريم الذين طويت ملفاتهم منذ عقود خمسة، وثانيا أطالب بما طالبت به ابنة ذلك الشهيد العظيم بألا تمضى خمسون أخرى لتكريم بقية الشهداء وتعويض أسرهم بما يحقق ولو واحدًا على مليون مما يستحقون! أما بليونيرات الحروب والانفتاح ومنظروهم الاستراتيجيون فقليل من الحياء إذا كانت القدرة على الحياء مازالت موجودة! ثم إن حديث الأم التى وقفت وكانت كلماتها نبع حكمة متدفقة بأسرع وأقوى من كل المدافع والحناجر، فقد جاء فى بعض منه موجهًا للأجيال الشابة الطالعة كى يعرفوا طبيعة ومضمون الانتماء للدراسة فى الكليات العسكرية وبعده الانتماء لصفوف العاملين فى الجيش والشرطة.. واذا كان لى أن أختم هذه السطور فإننى أستميح المشرفين على بريد الأهرام عذرًا أن يتكرموا ويفصحوا عن مصير بعض ما تم تقديمه لحالة محددة هى «يتيمات الشهيد السائق» الذى استشهد مع رجال القضاء فى سيناء، وكنت ومعى آخرون ننتظر معرفة ما تم غير أن الشهور طالت وآن لنا أن نسأل.. وفى ذلك تفاصيل مستعد للحديث فيها. لمزيد من مقالات أحمد الجمال